فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا؛ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى الهوى﴾(النازعات: ٣٧-٤١)، ويظهر التغابن بين من جاهد نفسه اليوم ومن أهملها يوم القيامة؛ قال تعالى:
قال سُفْيان الثورى: ما عَالَجْتُ شيئًا أشد عليَّ من نفسي: مرة لى، ومرة علي،، حلية الأولياء.
قال أبو اليزيد البسْطَامِيّ: عملتُ في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدتُ شيئاً أشد عليَّ من العلم ومتابعته،، حلية الأولياء.
أيها الصائمون: إن للصيام كبير الأثر في مجاهدة وتهذيب النفس لأنها جبلت على الخير والشر قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس٧ : ١٠)،
والنفس هى أعدى أعداء الإنسان لأنها بطبيعتها أمارة بالسوء، فإن لم يشغلها صاحبها بالحق شغلته بالباطل لذلك وجب على العبد مجاهدة نفسه، والأجواء الرمضانية خير مُعين على ذلك، لأن الشياطين ومردة الجن صفدوا، ليس أمام الصائم عدو سوى نفسه التى بين جنبيه؛ فعن أبي هريرة رضي الله قال رسول الله ﷺ: «إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلة: يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ» رواه الترمذي.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال:
«ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من الرفث» رواه ابن حبان والحاكم.
وقال ﷺ: « من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما كان ينبغي أن يتحفظ منه كُفِرَ ما قبله» رواه أحمد وابن حبان والبيهقي.
قال المناوي: الصوم وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة لأنه يقمع الهوى ويردع الشهوات التي هي من أسلحة الشيطان لذلك قال رسول الله ﷺ:
«ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم أكيلات يقن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه» رواه الترمذي.
وقال ابن الجوزي: ما من جارحة في بدن الإنسان
إلا ويلزمها الصوم في رمضان وغير رمضان فصوم اللسان ترك الكلام إلا في ذكر الله تعالى وصوم السمع ترك الإصغاء إلى الباطل وما لا يحل سماعه وصيام العينين ترك النظر والغض عن محارم الله. وقال الحسن البصري في قوله تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾(القيامة: ٢)، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ يَقُولُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي، يَقُولُ: مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي، مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي، فَلَا تَرَاهُ إِلَّا يُعَاتِبُهَا، الزهد،، للإمام احمد.
ومن هذا المنطلق كانت مجاهدة الصالحين لأنفسهم، بالصيام والطاعات من ذلك:
– سيدنا يوسف عليه السلام يكثر الصيام وهو على خزائن الأرض فسئل عن ذلك؟ فقال: «إني أخاف إذا شبعت أن أنسى جوع الفقير».
– وكان عمر – رضي الله عنه – يُخَاطِب نفسه، ويَقْهَرها حتى لا تَجْمح به، فتُخْرِجه عن الجادَّة، لقد دخل حائطاً فخَاطِب نفسه، قائلاً : عمر بن الخطاب أمير المؤمنِينَ، بَخٍ بَخٍ، واللهِ يا ابن الخطاب لتَتَّقِيَنَّ الله، أو ليُعَذِّبَنَّك، الموطأ.
– وكان الأحنف بن قيس: يصوم وهو مسن فقيل له: الصيام يضعفك؟ فقال إني أعده لسفري الطويل والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه.
– وقال أمير الشعراء أحمد شوقي: الصوم حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع لكل فريضة حكمة وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة يستثير الشفقة ويحض على الصدقة ويسن خِلاَل البر حتّى إذا جاع من ألف الشبع وعرف المترف أسباب المتع عرف الحرمان كيف يقع وألم الجوع إذا لذع.
– ولما تعرضت امرأة لشاب وأخبرته بشغفها به فلم يلتفت إليها وكتب واعظاً لها: اعلمي أيتها المرأة أن الله عزو جل إذا عصاه العبد حلم فاذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستره فاذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه وإني مشغول عنك بقوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾( غافر: ١٨-١٩)،
– ومما يجب مجاهدة النفس عليه وأنت فى شهر المجاهدة حفظ اللسان فيحفظ الصائم لسانه عن فضول الكلام والخوض في الأعراض والكذب والنميمة والبذاءة والسخرية واللعن وما إلى ذلك، بل ويجب على المسلم أن يشغل لسانه بالذكر وتلاوة القرآن الكريم قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾( ق: ١٨)، وقال ﷺ: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» رواه البخاري.
– وقد ذُكر عن الأوزاعي وعائشة رضى الله عنها: أن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم.
– قال ابن بطال: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه.
– وقال البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصيام نفس الجوع والعطش بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة فاذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر المقبول فنفى السبب وأراد المسبب.
عباد الله: إن الإنسانَ قد يُجَاهِد غيره، لكنه يَنْسَى نفسه، ويظن أنها لا تحتاج إلى مجاهدة، وقد يرى أنه أحسن الناس حالاً، أو على الأقل ليس أَسْوَأَ الناسِ، وهذا يُقْعِدُه عن المجاهدة، فيسير في الرَّدى، ويُوشِك أن يهلك، ولقد أشار إلى هذا المعنى الإمام علي رضي الله عنه حين قال: أولُ ما تُنكِرُون من جِهادِكُم أنفُسُكم، جامع العلوم والحكم.
– ولما سأل رَجُلٌ عبدَالله بن عمر رضي الله عنهما عن الجِهَاد قال: ابْدَأْ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغْزها.. جامع العلوم والحكم.
فاتقوا الله عباد الله: وأنتم في هذا الشهر الكريم وجاهدوا أنفسكم على طاعة الله، وترك ما حَرمَ
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه راجى عفو ربه / أيمن حمدى الحداد
الجمعة ٧ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً الموافق ٧ من مارس ٢٠٢٥ ميلادياً