بقلم الدكتور : فارس أبوحبيب إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف المصرية
رمضان هو شهر الروحانيات والتقرب إلى الله، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، فرصة ربانية تمتد لأيام معدودات، كما قال الله تعالى: “أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ” (البقرة: 184)، ومع ذلك نجد أن كثيرًا من الناس يضيعون هذه الفرصة الثمينة في متابعة الأفلام والمسلسلات والبرامج التافهة التي لا تحمل إلا إضاعة للوقت، بل وتُفسد القلوب والعقول، فكيف نوازن بين الاستفادة من التكنولوجيا والالتزام بروح رمضان؟ وكيف نحذر من فخ الإعلام الهابط الذي يسرق منا هذا الشهر الكريم؟
أولًا: خطر المسلسلات الهابطة والبرامج الفاسدة في رمضان:
لقد أصبح رمضان موسمًا إعلاميًا تُنتج فيه المسلسلات والبرامج بكثافة، ومعظمها لا يحمل رسالة هادفة، بل على العكس، ينشر الأخلاق الفاسدة، ويشغل القلوب عن ذكر الله. وهذه خسارة عظيمة، حيث قال النبي ﷺ:
“رَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثم انسلخ قبل أن يُغفرَ له” (رواه الترمذي ).
كم من الناس يخرجون من رمضان كما دخلوا دون مغفرة، لأنهم انشغلوا باللهو عن الطاعة؟
كم ضاعت علينا ركعات التهجد، وصفحات القرآن، وأدعية القنوت بسبب مسلسل لا يقدم لنا إلا الفساد؟
قال الله تعالى: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ” (لقمان: 6). قال ابن مسعود رضي الله عنه: “والله الذي لا إله إلا هو، إن لهو الحديث هو الغناء”، وإذا كان هذا في الغناء، فكيف بما هو أشد تأثيرًا، من المسلسلات التي تروج للفجور، والعلاقات المحرمة، والتطبيع مع الرذيلة؟
ثانيًا: التكنولوجيا.. سلاح ذو حدين في رمضان:
التكنولوجيا في ذاتها ليست شرًا، فقد تكون وسيلة لنشر الخير، أو قد تصبح بابًا للشر. قال النبي ﷺ: “نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ” (رواه البخاري). وهذا تحذير من إضاعة الأوقات فيما لا ينفع، فكيف نضيع وقت الفراغ في رمضان على مواقع التواصل الاجتماعي، أو أمام شاشات التلفاز، بينما يمكن أن نستثمرها في الصلاة وقراءة القرآن؟ فلقد سهلت التكنولوجيا الوصول إلى المعرفة الدينية، فبلمسة واحدة نستطيع متابعة دروس العلماء، وقراءة التفاسير، والاستماع إلى القرآن الكريم، لكنها في الوقت ذاته أصبحت وسيلة لإضاعة الأوقات، حيث ينشغل الكثيرون بمشاهدة البرامج والمسلسلات لساعات طويلة، أو يقضون الليل في تصفح مواقع التواصل دون فائدة.
طرق تحقيق التوازن بين التكنولوجيا والعبادة في رمضان:
1. وضع جدول زمني لاستخدام الهاتف والتلفاز: اجعل لنفسك وقتًا محددًا لاستخدام الهاتف ووسائل التواصل، ولا تجعله على حساب العبادات.
2. استثمار التكنولوجيا في الطاعة: تابع البرامج الدينية، أو استخدم التطبيقات الإسلامية لتسهيل قراءة القرآن والتذكير بالأذكار.
3. تجنب المسلسلات والبرامج الهابطة: رمضان ليس وقتًا للترفيه، بل هو وقت للعبادة، لا تكن ممن ضيعوا الشهر في اللهو، ثم ندموا بعد فوات الأوان.
4. إحياء العادات الأسرية الروحانية: بدلاً من متابعة التلفاز، اجتمع مع أسرتك لقراءة القرآن، أو صلاة القيام، أو مناقشة الفوائد الرمضانية.
5. الابتعاد عن مواقع الجدل والتفاهات: تجنب الانخراط في نقاشات عقيمة على مواقع التواصل لا تفيدك في دينك ولا في دنياك.
ثالثًا: رمضان.. أيام معدودات لا تضيعها:
الله سبحانه وتعالى وصف رمضان بأنه “أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ” (البقرة: 184)، أي أنها سريعة الانقضاء، فكيف نضيعها في مشاهدة مسلسل ينشر الرذيلة و الفواحش والبلطجة، أو في متابعة برنامج تافه لا يقدم لنا إلا السخرية والتفاهة؟
قال النبي ﷺ: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه” (متفق عليه)، فهل نحن ممن يصوم رمضان بحق، أم أننا نصوم عن الطعام فقط، بينما أعيننا وآذاننا تفطر على الحرام؟
رابعاً: رمضان.. شهر الاعتدال لا الإفراط:
الإسلام دين التوازن، فلا يُطلب منا ترك التكنولوجيا تمامًا، ولكن المطلوب هو الاستخدام الواعي. قال الله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا” (البقرة: 143). فكما أن رمضان يعلمنا الاعتدال في الطعام، فإنه أيضًا فرصة لتطبيق الاعتدال في استخدام التكنولوجيا.
خاتمة: رمضان محطة تغيير.. فهل نغتنمها؟
رمضان فرصة ثمينة للتغيير، فلا تسمح للشاشات أن تسرق منك هذه الفرصة. قال رسول الله ﷺ: “إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار، وصُفدت الشياطين” (متفق عليه)، فهل ستجعل نفسك أسيرًا لشياطين الإنس بعدما كُبلت شياطين الجن؟
اجعل من رمضان نقطة انطلاق نحو حياة أكثر قربًا من الله، وأكثر وعيًا بما يدخل إلى قلبك وعقلك، ولا تكن من الخاسرين الذين خرجوا من رمضان كما دخلوا، بل اجعله بابًا للتوبة والتغيير الحقيقي، فرمضان فرصة ذهبية للتقرب إلى الله، فلا ينبغي أن نسمح للشاشات أن تسرق منا روحانياته، يمكننا استخدام التكنولوجيا بطريقة إيجابية، لكن دون أن تأخذنا بعيدًا عن الهدف الحقيقي لهذا الشهر المبارك، وهو التزود بالتقوى والعمل الصالح. فلنجعل من رمضان نقطة انطلاق نحو توازن حقيقي بين العبادة والتكنولوجيا.