خطبة بعنوان (تعزيزُ الهويةِ ودورُهَا في صناعةِ الحضارةِ) لفضيلة الشيخ ياسر عبدالبديع

خطبة الجمعة القادمة (تعزيزُ الهويةِ ودورُهَا في صناعةِ الحضارةِ)
لفضيلة الشيخ ياسر عبدالبديع

 بتاريخ 7 رمضان 1446 هجرية 7 مارس 2025 م

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا

وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

تعزيز الهوية ودورها فى تاريخ الحضارة المصرية

العنصر الأول : تعزيز القيم والمبادئ وحسن الخلق

وقد تحدث القرأن وامتلأت الشريعة الإسلامية ,لتبين للجميع كيف كان الربط بين القول والعمل والقيمة والسلوك . والأخلاق في الإسلام قاسم مشترك على مختلف أوجه الحياة , سياسية واجتماعية وقانونية وتربوية. وغاية الأخلاق في الإسلام بناء مفهوم (( التقوى )) الذي يجعل أداء العمل الطيب واجباً محتماً ويجعل تجنب العمل الضار واجباً محتماً، ويجعل الخوف من الله أقوى .

فالقيم الأساسية في الإسلام ثابتة لا تتغير لأنها صالحة لكل زمان ومكان وإن الأخلاق والعقيدة والشريعة ليست من صنع الإنسان ولذلك فهي قائمة على الزمان ما بقي الزمان على اختلاف البيئات والعصور وإن الحق سيظل هو الحق لا يتغير.

ولذلك فإن أبرز قواعد الإسلام هو ( ثبات القيم ) وبالتالي (ثبات الأخلاق) وإن الالتزام الخلقي هو قانون أساسي يمثل المحور الذي تدور حوله القيم الأخلاقية فإذا زالت فكرة الالتزام قضي على جوهر الهدف الأخلاقي، ذلك انه إذا انعدم الالتزام انعدمت المسؤولية وإذا انعدمت المسؤولية ضاع كل أمل في وضع الحق في نصابه .

والإسلام يحمل قواعد نظرية أخلاقية متكاملة تقود إلى الفضائل في أحسن ما تكون عليه، وهذا ينبع من غاية رسالة الإسلام التي هي رحمة للعالمين.والخلق قد ورد فى موضعين فى القرأن

– في رد قوم هود عليه السلام عندما دعاهم لعدم التعلق بالدنيا والتطاول بالعمران، وأن يعبدوا الله فذلك أقوم وافضل لهم . فأجابوه وفق ما جاء في الآية الكريمة { إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(137) } (الشعراء).

فردهم هذا يتضمن مقولة مفادها : أن هذا الذي جئتنا به، هو سنة وعادة قوم سبقوك في الظهور، وادّعوا مثل دعواك.

وفي تلمس معاني هذه الآية الكريمة يتبين لنا أن دعوة الأنبياء والرسل كانت دوما تعتمد خطاً واحدا في منهاجها الأخلاقي الذي يقود إلى صلاح المجتمعات، وصلاح الأفراد.

ـ في قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) }(القلم).

جاء الخطاب من الله تعالى إلى النبي محمد صلى الله عليه ، وهو من كانت سيرته سنة يقتدى بها. وتؤكد كتب السيرة انه لم يكن لبشر ما كان ! للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأخلاق، فقد كان أحسن الناس خلقاً.. وأكثرهم محبة ورأفة ورحمة.

فدلت الآية على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق أنه يكون على خلق عظيم وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق , فمن ذلك قوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(237)} (البقرة).

فانظر ما في هذه الآية من الحض على مكارم الأخلاق من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل.

وقال تعالى:{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)} (المائدة).

فانظر ما في هذه الآيات من مكارم الأخلاق والأمر بأن تعامل من عصى الله فيك بأن تطيع الله فيه. وقال تعال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا(36)} (النساء).

فهذه الآية تأمر بالإحسان إلى المحتاجين والضعفاء .

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)} (النحل )

وقال تعالى:{ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)} (الأنعام ).
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(58)} (النساء )

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ(12)}(الحجرات).

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.

فعنوان الأخلاق الإسلامية استمد منه الرحمة, الرحمة من الإنسان لأخيه الإنسان، والرحمة من الإنسان للحيوان فلا يجهده أو يحمله فوق طاقته.

والرحمة تكون من الإنسان للطبيعة فلا يعبث بثرواتها التي هي خيرات أمده الله بها.

فالأخلاق الإسلامية ينبوع رحمة يوصل إلى الفضيلة مما يثمر سعادة عامة شاملة لكل أبناء المجتمعات .

فالخلق كلهم عباد الله. وتبدو الحاجة اليوم أكثر منها في أي وقت مضى للالتزام بالقيم والأخلاق الفاضلة

وفضل ومنزلة
الخلق الحسن أثقل شيء في ميزان الأعمال يوم القيامة ، وأحسن الناس خلقا أقربهم مجلسا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة .

روى الترمذي (2018) وحسنه عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا )

وروى البخاري (6035) ، ومسلم (2321) عن عبد الله بن عمرو عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا ) .
قال النووي رحمه الله :
” فِيهِ الْحَثّ عَلَى حُسْن الْخُلُق ، وَبَيَان فَضِيلَة صَاحِبه ، وَهُوَ صِفَة أَنْبِيَاء اللَّه تَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ ،
قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : حَقِيقَة حُسْن الْخُلُق : بَذْل الْمَعْرُوف , وَكَفّ الْأَذَى ، وَطَلَاقَة الْوَجْه .

قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : هُوَ مُخَالَطَة النَّاس بِالْجَمِيلِ وَالْبِشْر ، وَالتَّوَدُّد لَهُمْ ، وَالْإِشْفَاق عَلَيْهِمْ , وَاحْتِمَالهمْ ، وَالْحِلْم عَنْهُمْ ، وَالصَّبْر عَلَيْهِمْ فِي الْمَكَارِه ، وَتَرْك الْكِبْر وَالِاسْتِطَالَة عَلَيْهِمْ . وَمُجَانَبَة الْغِلَظ وَالْغَضَب ، وَالْمُؤَاخَذَة ” انتهى من “شرح مسلم” (15/78).

ولو تحدثنا عن خلق واحد سيئ فى هذا اللقاء وهو عقوق الوالدين من كبائر الذنوب ، ولا يفلح العاق في الدنيا ولا في الآخرة .

والواجب على المسلم والمسلمة الإحسان التام للوالدين ، والسعي في برهما بكل ممكن ، والبعد عن إغضابهما ومخالفتهما وعقوقهما .

تحسين الخلق وتهذيبه ممكن ، ويكون ذلك بالوسائل التالية :
– معرفة فضائل حسن الخلق والجزاء الحسن المترتب عليه في الدنيا والآخرة .
– معرفة مساوئ سوء الخلق ، وما يترتب عليه من الجزاء والأثر السيء .
– النظر في سير السلف وأحوال الصالحين .
– البعد عن الغضب ، والتحلي بالصبر ، والتمرس على التأني وعدم العجلة .
– مجالسة أصحاب الخلق الحسن ، والبعد عن مجالسة أصحاب الخلق السيء .
– تمرين النفس على حسن الخلق ، والتعود عليه ، وتكلفه، والصبر على ذلك ، قال الشاعر:
تكَرَّمْ لتَعْتادَ الجَمِيلَ ، ولنْ تَرَى … أَخَا كَرَمٍ إِلَّا بأَنْ يتَكَرَّمَا .
وأخيرا : بدعاء الله تعالى بأن يحسن خلقه وأن يعينه على ذلك ، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي ، فَأَحْسِنْ خُلُقِي) رواه أحمد (24392) وصححه محققو المسند .

وإذا ما زل المسلم وساء خلقه في موقف من المواقف ، فإنه يبادر إلى الاعتذار ، وإصلاح ما أفسده ، والعزم على تحسين خلقه .

والمسلم حينما يحسن خلقه يفعل ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى ، وطلبا لمرضاته ، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، شأنه في ذلك شأن جميع العبادات ، فلا يحسن خلقه من أجل أن يمدحه الناس ، فيكون بذلك قد أبطل ثوابه واستحق العقاب على هذا “الرياء” .

وكما يجتهد المسلم في إخلاص عبادته كلها لله ، فكذلك يفعل عندما يحسن خلقه ، فيضع نصب عينيه دائما أمر الله له ، والحساب والميزان والجنة والنار ، وأن الناس لن ينفعوه ولا يضروه بشيء .

فذكر الآخرة من أهم ما يعين المسلم على الإخلاص لله تعالى .

مما يعين على بر الوالدين :
– معرفة حق الوالدين وفضلهما ، وكيف قاما بتربية أولادهما وتحملا كل المشاق في سبيل تحقيق الحياة الهنيئة لهم .
– معرفة النصوص الشرعية الواردة في الحث على بر الوالدين والترغيب فيه . وكذلك النصوص الواردة في الترهيب من العقوق، ومعرفة أثر ذلك وجزائه في الدنيا والآخرة.
– معرفة أن بر الوالدين من أعظم أسباب حصول البر من أبناء الولد البار ، وأن العقوق من أعظم أسباب حصول العقوق من أبناء الولد العاق .
– النظر في سير السلف الصالح ، وكيف كانوا يبرون آباءهم وأمهاتهم .
– قراءة الكتب والرسائل التي تتحدث عن بر الوالدين وعقوقهما ، وكذلك الاستماع إلى الدروس الشرعية التي تتحدث عن ذلك .
– الهدية ، والكلمة الطيبة ، والوجه الباش ، وكثرة الدعاء ، وحسن الثناء ، من أعظم الأسباب التي تعين على البر .

– العنصر الثانى : تعزيز العلم والثقافة

ومن سبل التعزيز للهوية تعزيز العلم والثقافة ونرى ذلك جليا فى أكثر من موطن فى القرأن وفى سنة النبى محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال نصوص تتلى في كل آن وحين، فسورة القلم بدأها الله تعالى بقوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم:1)، كما أن أول آية نزلت من القرآن الكريم لم تأمر بالصلاة، ولا بالزكاة، ولا حتى بالجهاد، وإنما بالقراءة، يقول الله عزوجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (العلق:1-3).
وورثنا عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، آثارا وسيرا متواترة في تقديم الفقهاء والعلماء والقراء من الصحابة على غيرهم في إدارة الدولة، وقيادة شؤون الجهاد والسرايا، وتحصيل الأموال وتوزيعها، وفي الحكم والقضاء.
وفي هذا المضمار فإننا نرفع آيات المعروف والتقدير لآبائنا وأجدادنا، الذين أورثونا قيما وحكما نبيلة، وأمثالا ممجدة للعلم والعلماء، فقد عرفوا حق العلم، وقدرته على تطويع الحياة،، وتذليل الصعاب.

نعم، ربما كان بعض أجدادنا أميين، لكنهم لم يكونوا جهالا؛ لأن الجاهل من جهل حق الله وحق الناس، وكم من متعلمي اليوم، وحملة الشهادات يجحدون نعمة الله، وينكرون حق الأمة في رد الدين المناط بأعناقهم.

لقد ورثنا عن أجدادنا قيما ناظمة للحياة ممجدة للعلم، وكانوا يقدسون المسجد والكتاب، ويعتبرونهما من رياض الجنة. لكننا أهملنا هذه القيم، ما جعل أعداءنا ينتجون من العلوم والمعرفة أضعاف ما ينتجه العرب، رغم ماضينا المشرق في مجال العلم والعلوم.. فلماذا تراجعنا إلى هذا الحال؟

إن الواجب علينا دوما التذكير بالأولويات في ديننا الذي رفع العلماء إلى القمة إذ هم ورثة الأنبياء، ولا أشرف من النبوة، ولا أعظم من الرسالة المصطفاة.

الإسلام والعلم.

وفي ديننا: تعطى الزكاة لطالب العلم، ولا تعطى لمن يريد الانقطاع للعبادة؛ إذ لا رهبانية في الإسلام..

في ديننا يقدم الأحفظ لكتاب الله، والأفقه لإمامة الناس في الصلاة، كما جاء في الحديث (يؤم القوم أقرؤهم لِكِتَابِ اللَّهِ …)؛ لأنه أعلم بتدبير أمر الصلاة.

في ديننا: العلم خير من نفل العبادة، وقد جاء أن ابن وهب أراد أن يقوم من مجلس الإمام مالك من أجل الصلاة، فقال له الإمام مرشدا: “ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه إذا صح فيه النية”.

في ديننا أيضا، العلم قبل الجهاد، ومداد العلماء يوزن بدماء الشهداء. وبالعلم يعرف فضل الجهاد، وبالعلماء يحشد الناس للقتال، ولولا العلم الرشيد لكان القتال خروجا مذموما أو انتحارا في سبيل الأهواء المضلة، كما فعل الخوارج قديما، وكما تفعل الحركات المتطرفة حاليا.

في ديننا: العلم طريق الجنة، وسبيل معرفة الله، ويدل على هذين النصين القاطعين من القرآن قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:190-191).
ومن السنة: أخرج الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء مرفوعا، قوله عليه الصلاة والسلام: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا، ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

فمن تعزيز الهوية أننا كما فى حاجة ملحة للعلم الشرعى نكون بالتوازى نهتم إلى العلوم والمعارف الأخرى كعلم الحاسب ، والطب ، وعلم صناعة الأسلحة وغيرها، بل يجب أن تكون هذه العلوم محل عناية المسلم واهتمامه في عصرنا الحاضر لأنها لم تعد مجرد حاجة بل أصبحت ضرورة قصوى في وقت تخلَّف فيها المسلمون عن غيرهم من الأمم . يقول الله عز وجل: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم) .

أضف إلى ذلك كل علم نافع تحتاج له الأمة الإسلامية في حاضرها ومستقبلها للدفاع عن عقيدتها وشريعتها.
ونحن نعلم علم اليقين أنَّ سلف هذه الأمة قد اهتم بالعلوم الشرعية وما يتفرع عنها و في الوقت نفسه اعتنوا بعلوم ومعارف أخرى كعلم الطب و الجراحة و علم الرياضيات وعلوم الزراعة والتجارة والصناعة وغيرها من العلوم التي كانت لها دور كبير في بلوغ الحضارة الإسلامية مرحلة ازدهارها.

إنَّ المسلم يجب أن يعرف أنَّ كل ما يتعلّمه من العلوم والمعارف والفنون ولا يتعارض مع الشريعة الإسلامية وقواعدها يعتبر مأموراً به ومشجعاً عليه و له أجر عند الله تعالى فمن يتعلَّم صناعة الأسلحة لتدافع بها الشعوب المسلمة عن دينها وأوطانها أفضل ممن لا يعرفها، والذي يتعلم علم الطب ويعالج مرضى المسلمين أرفع درجة ممن لا يقدم شيئاً للأمة، ومن لديه خبرة ومعرفة بتقنية العصر (الكمبيوتر والإنترنت) ويجيد فن استخدامها والاستفادة منها في الذب عن الإسلام، ويساهم في إيصال كلمة الحق إلى الآفاق في عصر العولمة خير من غيره وهكذا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنّ هذا الخير خزائن ، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر. وويل لعبدٍ جعله الله مفتاحاً للشر، مغلاقاً للخير) ( ابن ماجه).

فأين نحن من هذه المعاني العظيمة ، وما السبيل لتفعيل الطاقات المعطلة في هذه الأمة

العنصر الثالث : كيفية المحافظة على الهوية وسبل تعزيزها

فخير ما يعينكم على عدم التأثر بالغرب في أخلاقهم، عدة أمور عملية تحفظ الشخصية الإسلامية:
– أن تقيموا علم الولاء والبراء في قلوبكم، والذي يعني وجوب محبة المؤمن ونصرته وبغض الكافر وعداوته، قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4].
فمن الركائز التي تتميز بها شخصية المسلم الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من كل من حاد الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين.
ومن الآثار الحميدة لعقيدة الولاء والبراء أنها تمنع شخصية المسلم من الذوبان في غيرها.
والمتأمل في القرآن الكريم يقف على آيات كثيرة تؤيد هذا المعنى وتؤكده، كقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
وكقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:25-26].
– الحذر من التشبه بالغرب وسواء كان التشبه بهم في لباس أو طريقة كلام، أو قصة شعر ونحو ذلك مما هو من خصائصهم التي تميزهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تشبه بقوم فهو منهم. رواه أبو داود، وقال عنه حسن صحيح. صحيح أبي دواد 2/761.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجاناتهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة. رواه البيهقي.
– معرفة ما أعد الله لهم من سوء العذاب بسبب ما هم عليه من الكفر في الاعتقاد والفسق في الأعمال، وأنهم بذلك استوجبوا لعنة الله ورسوله، قال الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78].
– عدم الاختلاط بعادات وتقاليد الغرب وغيرهم إلا من ضرورة، لأن الاختلاط بهم داع إلى مشاكلتهم في أخلاقهم لأن الطباع سرَّاقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي. رواه أحمد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. رواه الترمذي وأبوداود.

– الحرص على إقامة الواجبات، وترك المحرمات، كالحرص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة…. إلى غير ذلك من أركان الإسلام، وكالحرص على الائتمار بينكم بالمعروف والتناهي عن المنكر، وأمر النساء بالحجاب، والعناية بتربية الأولاد تربية إسلامية، وكذلك الحرص على الابتعاد عن التعامل بالربا والتجارة في المحرمات، والاستماع إلى الغناء ….. إلى آخر ما يلزم المسلم الانتهاء عنه.
– الحرص على الترابط وإقامة علاقات وصلات جيدة بينكم خاصة، ومع باقي المسلمين عامة، فهذا من شأنه أن يوحد أمركم ويقوي عزمكم، ويعينكم على مواجهة عدوكم، قال صلى الله عليه وسلم: المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا. وشبك بين أصابعه. رواه مسلم.

وقال أيضاً: عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. رواه أحمد.
– أن تعتزوا بإسلامكم وإيمانكم، كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به، أذلنا الله. رواه الحاكم وغيره، وصححه الألباني رحمه الله.

وأن تعلموا أن ما عليه الغرب وغيرهم من تقدم مادي ومناهج وفلسفات، مهما زينوه وبهرجوه، ففيه من الخلل والفساد بسبب كفرهم ما يمنع اكتمال نفعهم به، فلا ينبغي للمسلم أن ينبهر بهم، ولهذا شبه الله الكفار بالأنعام السارحة؛ فقال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171].

وقال تعالى: إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

فإن دور الشباب في حفظ الهوية عظيم، بل إن العدو يرصد التغيرات من خلال هوية الشباب وهمومهم، وقل لي ما هي غايتك وقضيتك أقل لك من أنت؟

ولا شك أن التمسك بالعقيدة والحرص على كتاب الله والسير على هدى النبي صلى الله عليه وسلم من أهم ما يحفظ للأمة هويتها وخصوصيتها كما أن معرفة الإنسان لقيمة ما يملك يجعله شديد المحافظة على مكتسباته، وإذا كان أهل الباطل يحافظون على باطلهم وأصنامهم فما أحوج حملة الحق إلى التمسك به والسير على هداه.

وأرجو أن يدرك الشباب أن الأعداء يئسوا من انسلاخ الشباب المؤمن من دينه فجاؤا بفلسفة (أللا منتمي) من أجل إيجاد أجيال لا لون لهم ولا طعم ولا رائحة، وعند ذلك سوف ينتصر العدو دون أن يخوض معارك تكلفة الأموال والأرواح، والمسلم ليس كماً مهملاً ولابد أن يتذكر ما قاله الحكيم:-

خلقت لأمر لو فطنت له ** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

ونحن نتمنى أن يدرك كل شاب أنه ليس بعد الحق إلا الضلال ولا يخفى على أمثالك أنه لا مكان للحياد في عالم يحارب الأديان والقيم.
وقد أحسن من قال في خطابه للمذبذبين الحائرين:

وما الدهر إلا ليلة ونهارها * وما الناس إلا مؤمن ومكذب
فإن أنت لم تؤمن ولم تك كافراً * فأين إذا يا أحمق الناس تذهب

وهذه بعض الوسائل التي تحافظ بها على هويتها:

1- اللجوء إلى مصرف القلوب.وهو الله سبحانه

2- الحرص على حفظ ومدارسة القرآن.

3- عكس صورة المسلم الملتزم القدوة للشباب.

4- الاهتمام بدراسة اللغة العربية باعتبارها الوعاء الذي حمل القرآن والسنة والاهتمام بها يسهل فهم المراد.

5- المحافظة على العادات والتقاليد والقيم التي لا تصادم شريعة الله.

6- الحرص على التفوق والتميز.

7- تربية النفس والأبناء والأهل على حب النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه وجعلهم القدوة الحسنة.

8- إدراك خطورة التشبه بالأعداء والسير على دربهم، وقد حرضتنا الشريعة على التميز في شتى المجالات.

9- تقوى الله في السر والعلن.

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ

اترك تعليقاً