خطبة بعنوان «يا باغيَ الخيرِ أقبلْ»  لفضيلة الدكتور ايمن الحداد

خطبة بعنوان «يا باغيَ الخيرِ أقبلْ»  لفضيلة الدكتور ايمن الحداد

الجمعة ٢٩ شعبان ١٤٤٤ هجرياً ـ الموافق ٢٨ فبراير ٢٠٢٥ ميلادياً

عناصر الخطبة 

♦ أولاً: التخلية قبل التحلية. 

♦ ثانياً: حفظ الجوارح عما يتنافى مع الغاية من الصيام. 

♦ ثالثاً: إصلاح القلب بمجاهدة النفس. 

نص الخطبة : 

الحمدلله الذى أعزنا بالإسلام وتفضل علينا بمزيد من الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: لقد اختص الله عزّ وجل بعض الأوقات والأزمنة بالتعظيم والإكرام وجعلها مواسم للطاعات والتسابق إلى فعل الخيرات كما جعل لها من الخصائص والفضائل ما ليس لغيرها فكان شهر رمضان أفضل الشهور على الإطلاق لما فيه من الرحمات والبركات، لذلك كان الصالحون يستعدون لاستقبال رمضان ويتهيئون لذلك بجميع أنواع القربات ويتعرضون فيه للنفحات؛ فعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال رسول الله ﷺ: «إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ» رواه الترمذي. 

أولاً: التخلية قبل التحلية؛ هذه قاعدة عظيمة إذ لابد من التخلى بداية عما يغضب الله عز وجل من الآثام، ثم التحلى بكل أنواع الطاعات وغرس أصول الحسنات؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(آل عمران: ١٣٥)، 

لقد جعل الله عز وجل رمضان موسماً للطاعات وفعل الخيرات، جعله فرصة لنا كى نتوب ونتطهر من الذنوب والخطايا، حتى نلحق بركب المتقين، 

فيجب علينا أن نبادر بالتوبة الصادقة؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(التوبة: ٣١)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾(التحريم: ٨)، وقال سيدنا رسول الله ﷺ: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» رواه الترمذى.

عباد الله: ربما يقول قائل: لماذا نجدد التوبة فى رمضان؟! 

والجواب ﻷن التوبة منزلة عليّة من بلغها فقد بلغ الخير كله. 

قال ابن القيم رحمه الله: التوبة هي أول منازل السائرين إلى ربهم وأوسطها وآخرها. 

– نجدد التوبة فى رمضان حتى يُبدل الله سيئاتنا حسنات قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(الفرقان: ٧٠)، 

– نجدد التوبة فى رمضان لنتخلص من ظلمات الذنوب والمعاصى، قال تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(الحجرات: ١١)، 

– قال ابن عباس رضى الله عنهما: يا صاحب الذنب

 لا تأمن فتنة الذنب وسوء عاقبة الذنب، وما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا علمت، فإن قلة حيائك ممن على اليمين والشمال وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وضحكك وأنت لم تدر ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب.. رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن الجوزي في كتابه ذم الهوى.

– ونتوب لأن التوبة من أفضل العبادات وأجلها، فهي تجمع الخضوع، والذل، والانكسار بين يدي الله جل وعلا، إضافة إلى تحقيق الحب والرجاء، وهذه هي العبودية التي تحقق لصاحبها شرف الانتساب إلى ركب المتقين. 

يا ربِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً 

             فلقد عَلِمْتُ بِأَنَّ عفوك أَعْظَمُ 

إِنْ كَانَ لاَ يَرْجُوكَ إِلاَّ مُحْسِنٌ 

         فَمَن الذي يَدْعُو ويَرْجُو المجرم 

أَدْعُوكَ رَبِّ كما أمرت تَضَرُّعاً 

                   فَإِذَا رَدَدَّتَ يَدِي فمن ذا 

يَرْحَمُ مَالِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلاّالرَّجَا 

            وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ

– نتوب لأن هناك ما يدفعنا نحو التوبة، وهو ما بيّنه الله من عظيم فضلها، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾(طه: ٨٢)، 

نجدد التوبة فى رمضان وفي كل وقت تأسياً بسيدنا رسول الله ﷺ فقد كان يستغفر ربه ويتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة؛ فعن ابن عمر رضى الله عنهما قال سيدنا رسول الله ﷺ: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة» رواه مسلم.

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» رواه البخارى.

قال الحافظ في الفتح: ويحتمل أن يكون كثرة استغفار النبي ﷺ وتوبته من انشغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة أو لمخاطبة الناس والنظر في مصالحهم ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى وتأليف المؤلفة وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ومراقبته فيرى ذلك ذنباً بالنسبة إلى المقام العلي. 

فمن أحق بالتوبة والإستغفار نحن أم من غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟!

ولأجل أن تكون التوبة مقبولة عند الله تعالى لابد أن تتوافر فيها شروطها؛

١- الإقلاع عن الذنوب والمعاصى. 

٢- العزم على عدم العودة إلى معصية الله أبداً.

٣- رد المظالم والحقوق إلى أهلها. 

٤- ويصاحب ذلك الندم على ما فعل من المعاصي؛ فعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: «وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟» فَقَالَ مِنَ الزِّنَي، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَبِهِ جُنُونٌ؟» فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَالَ «أَشَرِبَ خَمْرًا» فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:

«أَزَنَيْتَ؟» فَقَالَ نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَائِلٌ يَقُولُ مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتُلْني بِالْحِجَارَةِ قَالَ فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ:«اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ» قَالَ: فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ» رواه مسلم.

فتأمل يرحمك الله: كيف كان ماعز مثلاً رائعاً فى صدق التوبة إلى الله عز وجل، لقد آثر رضا على سخطه وآثر الآخرة على الأولى فهانت عليه نفسه أن يموت رجماً بالحجارة، حتى ينجو من عذاب النار.

عباد الله: ومما يجب الحذر منه تسويف وتأجيل التوبة قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(النساء: ١٧-١٨)، 

ثانياً: حفظ الجوارح عما يتنافى مع الغاية من الصيام؛ إن حقيقة الصوم إن تصوم جميع الجوارح.

صوم القلب عن الوساوس والشبهات وصوم السمع والبصر عن الخطايا وصوم اللسان عن الآفات وصوم الفرج والبطن واليد والرجل عن المعاصي والذنوب؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: ١٨٣)،

– قال عمر رضي الله عنه: ليس الصيام من الطعام والشراب وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو.. 

– وقال جابر رضي الله عنه: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.

 فالصيام جنة كجنة القتال أي أن الصيام وقاية

بين العبد وبين المعاصي، فهذا الشهر الكريم فرصة لك أيها المسلم لتزكي نفسك وتخلصها من آثار الآثام والمعاصي، فبعض الناس لم يفهم حقيقة الصوم، يمتنع في نهار رمضان عن الطعام والشراب لكنه لا يتوب عن المعاصي لا يقلع عن الظلم إن كان ظالماً، وإذا كف عن المعاصي في نهار رمضان أفطر على المعاصي في ليل رمضان فنهاره جوع وعطش وليله عكوف على المعاصي. 

– لقد عاش أسلافنا الكرام رضي الله عنهم حقيقة الصيام فجَنَوْا ثِمار صيامهم واستمدوا منه قوة الروح، فكان نهارهم كفاحاً وجهاداً، وكان ليلهم تَهجُّدًا وقرآنًا، وكان شهرهم عبادة وإحسانًا. 

– لقد صامت ألسنتهم عن اللغُو والرَفَث، وصامت آذانهم فلا تَسمع باطلاً، وصامت أعينهم فلا تَنظُر إلى حرام، وصامت قلوبهم فلا تعزِم على خطيئة أو إثم وصامت أيديهم فلا تمتَدُّ بسوء أو أذًى

– لقد عاشوا حقيقة الصيام فحققوا التقوى؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال سيدنا رسول الله ﷺ: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ» رواه البخاري.

– وتقوى الله عز وجل تكونُ بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ولأهمية التقوى فقد أوصى الله بها خير عباده، فالتقوى هي لباسٌ الروح والقلب، قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْر﴾(الأعراف: ٢٦)، 

– قال على بن أبي طالب رضى الله عنه التقوى هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. 

– وقال عبدالله ابن مسعود: التقوى هي أن يطاع الله فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. 

– وقال أبو الدراء: التقوى هي أن تجعل لسانك رطباً بذكر الله.

– والتقوى هي وصية سيدنا رسول الله ﷺ لأمته، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه: قال: صلى بنا رسول الله ﷺ الصبح، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فقال: «أُوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا»رواه الدارمي وغيره.

وكان من دعاء النبي ﷺ: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها».

ومن وصايا الرسول ﷺ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «اتَّق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تَمْحُها، وخالق الناس بخُلقٍ حسن» رواه الترمذي وقال حسن صحيح.

وفي دعاء السفر كان يقول ﷺ: «اللهم إنَّا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى»

– ولقد قال أبو حازم لسليمان بن عبد الملك وقد طلب النصيحة: نزه الله وعظمه، وإياك أن يراك حيث نهاك.

– وقال حاتم الأصم: لا تكن مراقباً لله إلا إذا أيقنت أن الله يرى أفعالك ويسمع قولك ويعلم ما في صدرك قبل أن يكون على لسانك.

.وهذا يجعل العبد فى مراقبة لله تعالى على الدوام، فهو يراقبه في النهار بالصيام، ويراقبه في الليل بالقيام، فيكسب بذلك الإحسان وهو أعلى درجات الدين؛ لأن الإحسان إيمان وإسلام، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾(المجادلة: ٧)، 

إن رمضان مدرسةٌ يتربى فيها المسلم على طاعة الله، فلا بد أن يتميز المسلم في صيامه بتقوى الله جل وعلا، فيترك ما اعتاده من التقصير في الواجبات، ويترك ما اعتاده من المنكرات ويتأكد على الصائم ترك الذنوب والمعاصي، وإلا لم يكن لصيامه معنى؛ فعنْ أَبي هُرَيرَةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: «إِذا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صائمٌ» متفقٌ عَلَيْهِ.

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن حقيقة الصيام إنما تعنى حفظ الجوارح عما حرم الله عز وجل. 

أقول قولي هذا واستغفر الله لى ولكم. 

الخطبة الثانية: 

الحمد لله وكفي وصلاةً وسلاماً علي عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا عباد الله: إن القلب هو موضع التقوى؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «التقوى ها هنا وأشار إلى القلبِ بحسْبِ امريءٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلمَ» رواه الترمذى.

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ» رواه البخارى ومسلم. 

♦ ثالثاً: إصلاح القلب بمجاهدة النفس؛ إن المسلم إذا أراد أن يستثمر زمن رمضان، وإذا أراد أن يلحق بركب المتقين فعليه بإصلاح قلبه ومجاهدة نفسه لأن سلامة القلب هى المعول عليها فى قبول الأعمال؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾(الشعراء ٨٧- ٨٩) 

قال أبو هريرة رضى الله عنه: القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا صلح الملك صلحت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده. 

– ومما يعين العبد على إصلاح القلب أن يجاهد المسلم نفسه على الطاعات؛ فإن مجاهدة النفس أمر شاق لكنه لا غنى للعبد عن ولوجه لأن فيه النجاة؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(العنكبوت: ٦٩) ويقول النبى ﷺ: «المجاهد من جاهد نفسه فى الله عزّ وجل» رواه ابن أبى الدنيا. 

– ولما كان جهاد النفس من أهم ما يحرص عليه الصالحون فلقد أوصى أبوبكر الصديق رضى الله عنه عمر بن الخطاب رضى الله عنه قائلاً: إن أول ما أحذرك نفسك التى بين جنبيك وذلك عندما استخلفه. 

– ولما عاد قوم من القتال فى سبيل الله عزّ وجل ورأهم إبراهيم بن علقمة فقال لهم: رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا: وما الجهاد الأكبر ؟ قال: جهاد النفس. 

– فينبغى للعبد أن يجاهد نفسه وهو يستقبل رمضان على الطاعات؛ وأن يلح فى دعاءه على ربه جل وعلا أن يبلغه رمضان؛ فإن سلفنا الصالح رضى الله عنهم كانوا من شدة شوقهم لرمضان أنهم كانوا يستعدون لاستقباله ستة أشهر.

– قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان. 

– وقال يحيى بن أبى كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمنى إلى رمضان وسلم لى رمضان وتسلمه منى متقبلاً.

– لأن بلوغ رمضان نعمة عظيمة؛ فعن أبى سلمة عن طلحة بن عبيدالله أن رجلين من بلى قدما على رسول الله ﷺ وكان إسلامها جميعاً فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر فغزا المجتهد منهما فاستشهد ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفى قال طلحة: فرأيت فى المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذى توفى الآخر منهما ثم خرج فأذن للذى استشهد ثم رجع إلى فقال : ارجع فإنك لم يأن لك بعد فأصبح طلحة يحدث الناس فعجبوا لذلك فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: «من أى ذلك تعجبون؟ فقالوا: يارسول هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله! فقال ﷺ أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ قالوا: بلى قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة فى السنة ؟ قالوا: بلى قال رسول الله ﷺ: فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض» رواه بن ماجة.

– ويشرع للمسلم أن يهنىء إخوانه بمجىء رمضان وأن يستقبله بالفرحة قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾(يونس: ٥٨)، 

– ولقد كان من هدى سيدنا رسول الله ﷺ أن يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال كان رسول الله ﷺ يقول: «قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك أفترض عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم» رواه النسائى. 

– قال ابن رجب الحنبلى: هذا الحديث أصل فى تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان؛ وكيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان وكيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران وكيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان. 

فيا عباد الله: إن رمضان فرصة كى يتوب العبد ويتطهر من خطاياه فرصة كى يجاهد نفسه ويزكيها حتى يلحق بركب المتقين فالعاقل الذى يستقبل رمضان متحلياً بكل أنواع العبادات قولية كانت مثل الذكر والدعاء وتلاوة القرآن والاستغفار وتعليم الناس الخير وإرشاد الضال وأمر بمعروف ونهى عن منكر أو عبادات بدنية مثل الصلوات أو مالية مثل الزكوات والصدقات؛ فاللهم بلغنا رمضان وبارك لنا فيه؛ واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

وأقم الصلاة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *