خطبة بعنوان «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ برِفْقٍ»
لفضيلة الشيخ ياسر عبدالبديع
خطبة الجمعة القادمة بتاريخ 22 شعبان 1446 هجرية
21 فبراير 2025 م
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ
إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق
العنصر الأول : فضل الرفق ومنزلته
صفةٌ كريمة، وخلُق جميل، فيه سَلامةُ العِرض، وراحةُ الجسَد، واجتلابُ المحامد. خلُقٌ من أشهَر ثمارِ حُسن الخلق وأشهاها، ومن أظهر مظاهِر جميل التعاملات وأبهاها، خلُقٌ يقول فيه نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَا كَانَ في شيءٍ إلا زَانَه، وَمَا نُزِعَ مِنْ شيءٍ إلا شَانَه))، إنه الرّفقُ..
فما أحوج المسلم إلى الرفق في قوله وفعله، في سلوكه ومعاملته، مع أهله وأقاربه، مع أصدقائه وأحبابه، مع الصغار والكبار، مع الذكور والإناث، مع الإنسان ومع سائر الكائنات…
ما أحوجنا إلى الرفق واللين؛ في زمن كثرت فيه مظاهر العنف والقسوة والغلظة والجفاء، في البيوت والشوارع والأسواق والمؤسسات والملاعب والأندية، وغير ذلك من الأماكن العامة والخاصة…
مفهوم الرفق:
الرفق تحكُّمٌ في هوى النفس ورغباتها، وحَملٌ لها على الصبرِ والتحمُّل والتجمُّل، وكفٌّ لها عن العنف والتعجُّل، وكظمٌ عظيم لما قد يلقَاه من تطاوُل في قولٍ أو فعل أو تعامل.
الرفق لين الجانب، ولطافةُ الفعل، والأخذُ بالأيسر والأسهل، وأخذٌ للأمور بأحسن وجوهها وأيسرِ مسالكها.
هو رأس الحِكمة، ودليل كمالِ العقل وقوّة الشخصية والقدرةِ القادرة على ضبطِ التصرّفات والإرادات واعتدال النظر، ومظهرٌ عجيبٌ من مظاهر الرشد، بل هو ثمرةٌ كبرى من ثمار التديُّن الصحيح. فيه سلامةُ العِرض، وصفاءُ الصدر، وراحةُ البدن، واستجلاب الفوائِد وجميلِ العوائد، ووسيلةُ التواصل والتوادّ وبلوغِ المراد.
وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في تعامله وخلقه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ، إِنْ قِيدَ انْقَادَ، وَإِنْ أُنِيخَ عَلَى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ».
أيّها المسلمون، الرفقُ سلوكٌ كريم في القول والعملِ، وتوسّطٌ في المواقف، واعتدالٌ وتوافق، واختيارٌ للأسهل والألطف.
الرفق في الأمور كلها من شأنه أن يُصلح ويعطي أفضل النتائج، بخلاف العنف فمِن شأنه أن يفسد ويعطي أسوأ النتائج، فمن أعطي الرفق فقد أعطي خيرا كثيرا، ومن حرم من الرفق فقدَ خيرا كثيرا. وحسْب المسلم أن يعلم أن الرفق من صفات الله تعالى العليا التي أحبها لعباده في الأمور كلها:
ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ».
فربّنا عزَّ شأنه رفيق بخلقِه، رؤوف بعباده، كريم في عفوه، رفيقٌ في أمره ونهيه، لا يأخذ عبادَه بالتكاليف الشاقّة، ولا يكلفهم بما ليس له به طاقة؛ قال سبحانه: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن:16]، ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، ﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]، ﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة:185]، ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].
قال ابن القيم رحمه الله في “الوابل الصيب”: (من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحمَهمْ رحمَه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه).
والرفق خلق نبوي كريم؛ حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبين فضله وقيمته.
في صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ اليَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: «وَعَلَيْكُمْ» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ، أَوِ الفُحْشَ» قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ».
وأخرج الترمذي والبيهقي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ».
لو سار ألفُ مَدَجَّجٍ في حاجة
لم يَقْضِها إلا الذي يترفق
قال أَبُو حاتم رحمه: (الواجب على العاقل لزوم الرفق في الأمور كلها، وترك العجلة والخفة فيها، إذ اللَّه تعالى يحب الرفق في الأمور كلها، ومن مُنِع الرفقَ مُنِع الخير، كما أن من أعطِيَ الرفق أعْطِيَ الخير، ولا يكاد المرْء يتمكن مِن بُغيته في سلوك قصده في شيء من الأشياء على حسب الذي يحب إلا بمقارنة الرفق ومفارقة العجلة).
وقال أيضاً: (العاقل يلزم الرفق في الأوقات والاعتدال في الحالات؛ لأن الزيادة على المقدار في المبتغى عيب، كما أن النقصان فيما يجب من المطلب عجز، وما لم يصلحه الرفق لم يصلحه العنف، ولا دليل أمهر من رفق، كما لا ظهير أوثق من العقل، ومن الرفق يكون الاحتراز، وفي الاحتراز ترجى السلامة، وفي ترك الرفق يكون الخرق، وفي لزوم الخرق تخاف الهلكة) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لمحمد بن حبان البستي.
العنف يهدم ولا يبني:
إياكم والعنف؛ فإنه يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، ويفرق ولا يجمع.
مِن الناس مَن امتلأ قلبه قسوة وشدة، يَعَنّف، ويدمر، ويخرب، ويسعى في الأرض بالفساد، عنيف في قوله، عنيف في فعله، عنيف في أخذه وعطائه: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 205، 206].
يظنّ الرفقَ ذِلّة، والرحمة ضعفًا، والأناة كسَلا، والمداراة نفاقًا، واللطفَ غَفلة… ويظنّ الفظاظة رجولة وحزمًا، والقساوة قوة، والتشدّد تمسّكًا والتزامًا، وهل هذا إلا انقلاب في المفاهيم، وسوء في الفهم، وغَلط في الإدراك؟!
إياكم والعنف بأذيّة الآخرين أو بتخويفهم وترويعهم؛ فإن أذيّة المسلم حرام، وتخويفه وترويعه حرام.
روى الإمام أحمد وأبو داود والبيهقي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».
وفي صحيح مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ».
وعليكم بالرفق فإن النفس البشرية تميل إلى الرفق ولين الجانب وطيب الكلام وتأنس به، وتنفر من الغلظة والفظاظة والخشونة والعنف.
ورافق الرفق في كل الأمور فلم
يندم رفيق ولم يذممه إنسان
ولا يغرنك حظ جره خرق
فالخرق هدم ورفق المرء بنيان
أعظم نموذج في الرفق:
الحبيب المصطفى: فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو المثلُ الأعلى والأسوةُ الأولى في أفعالِه وأقوالِه ومعاملاتِه رِقّةً وحُبًّا وعطفا ورِفقًا.
فلقد امتنّ ربنا جلّ وعلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن جَبَله على الرفق ومحبة الرفق، وبأن جنّبه الغلظة، والفظاظة، فقال عز وجل: ﴿ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران:159].
ولقد كانت سيرته عليه الصلاة والسلام حافلةً بهذا الخلق الكريم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم رفيقاً هيناً ليناً سهلاً في تعامله وفي أقواله وأفعاله، وكان يحب الرفق، ويحث الناس عليه، ويرغّبهم فيه… يقول أنس رضي الله عنه: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ». وعنه رضي الله عنه قال: قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ»، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى «نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ»، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، «فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ». متفق عليه.
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ـ أي بعيرا كان له عليه ـ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ» وَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: «اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً».
عبادَ الله؛ ما أحسنَ الإيمان يزينُه العلم! وما أحسَن العلم يزينه العمَل! وما أحسن العمَل يزينه الرفق! وما أضيفَ شيء إلى شيء مثل حِلم إلى عِلم، ومَن حَلُم ساد، ومَن تفهَّم وتأنَّ ازداد، ومن زرَع شجرةَ الرفق حصَد ثمرة السلامة. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ؟ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ». أخرجه الترمذي والطبراني.
فعلى المسلم أن يكون رفيقاً بإخوانه، رحيماً بهم، يغفر زلاتهم، ويعفو عن إساءتهم، يرحم ضعيفهم، ويوقر كبيرهم، ولا يشق عليهم…
وقد دعا الإسلام إلى الرفق في كل مجالات الحياة:
لعلنا نتخلق بهذا الخلق الكريم، ولعلنا نتخلى عن خلق العنف والقسوة والغلظة؛ فإن مشاكل المجتمع ما تفاقمت وتكاثرت إلاّ بسبب انتشار العنف والقسوة، وغياب خلق الرفق واللين. فأصبح الكل يشتكي من العنف المنتشر في كل ميدان؛ الأستاذ يشتكي، والأبناء يشتكون، والآباء يشتكون، والأزواج يشتكون، والجار يشتكي، والتجار يشتكون، والعمال يشتكون… فأين الرفق؟ وأين اللين؟ وأين الصبر؟ وأين الحكمة في معالجة الأمور؟..
فما أجمل الرفق، وما أجمل أهله. وما أحوج الناس اليوم إلى التعامل فيما بينهم برفق ولين في كل شؤون الحياة؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى». أخرجه البخاري.
فالرفقِ ليست له حدودٌ تقيِّده، ولا مجالٌ يحصُره، فالإسلام يدعو إلى الرفق في كل مجالات الحياة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ». دين يدعو إلى الرفق في مجال التربية والتعليم، ويدعو إلى الرفق بالمسيء، يدعو إلى الرفق بالأقارب، ويدعو إلى الرفق بالأباعد، يدعو إلى الرفق بالإنسان، ويدعو إلى الرفق بالحيوان.
الإسلام يدعو إلى الرفق في مجال الدعوة والتربية والتعليم:
فما أحوج الدعاةَ والمربّين إلى أن يلتزموا بالرفق في مجال الدعوة والتربية والتعليم.
ولقد رسم القرآن الكريم منهج الإسلام في الدعوة إلى الله بقوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
فبالرفق والتيسير واللين والسماحة تُفتَح مغاليق القلوب، وتكون التربية ويكون التعليم، لا بالعنف والتعسير والشدة والمؤاخذة، ولكن بالتيسير والتبشير؛ وهذا هو هدي نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذه هي وصيته. ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا».
ولما أرسل الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وهو من هو في ظلمه وطغيانه وتجبره ومعاداته الحق وأهله، قال عز وجل: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44].
ذلك أن الناس ينفرون بطبائعهم من الفظاظة والخشونة والعنف، ويألفون الرقة واللين والرفق، ولذا قال ربنا سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].
فمُحال أن يأتي الإصلاح بعنف، ومحال أن يكون التغيير إلى الخير بالشدة والعنف؟ فالدعوة تحتاج إلى رفق، والنصيحة تحتاج إلى رفق، والتعليم يحتاج إلى رفق، والتربية تحتاج إلى رفق، وهذا هو منهج حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في معالجة الأمور، ومواجهة الأحداث، وتهذيب النفوس، وتربية الأجيال، وتعليم الجاهل، وتنبيه المسيء..
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».
وفي صحيح مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي – أيْ: مَا نَهَرَنِي – وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي، قَالَ: « إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ».
وروى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا؛ فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي – قَالَ – فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ؛ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟». قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وفي صحيح مسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ، – قَالَ – فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ لِي: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟». قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلاَّ الْخَيْرَ. قَالَ: «فَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ». قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. – قَالَ – فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ؛ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ». قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ: «كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا». قَالَ: «وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ». قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ».
قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ». قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ ـ أي زائرك ـ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا». قَالَ: فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ. قَالَ: وَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لاَ تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ». قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
الإسلام يدعو إلى الرفق بالأهل والأبناء:
أحق الناس برفقك: أبوك وأمك؛ فوصية الله إليك ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24].
وأحق الناس برفقك: زوجتك؛ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لك «استوصوا بالنساء خيرا».
وأحق الناس برفقك: أبناؤك وبناتك؛ ففي الصحيحين عن عُمَرَ بْن أَبِي سَلَمَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أي في تربيته وتحت رعايته – وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ. أي صفة أكلي وطريقتي فيه بعد أن علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكم منا من يحفظ هذا الحديث ويتعمد أن يأكل أو يشرب بشماله. فأين السنة؟ وأين الاقتداء؟..
فمن الواجب على الآباء والمربين أن يغرسوا خلق الرفق في نفوس الأبناء والتلاميذ، فهم في حاجة إلى الرفق في مؤسساتهم، وبيوتهم، وشوارعهم… مع الوالدين والأساتذة، والجيران، والأصحاب، والكبار والصغار… فظاهرة العنف قد انتشرت في صفوف الشباب، فلم يسلم من عنفهم قريب ولا بعيد، ولا صغير ولا كبير..
الإسلام يدعو إلى الرفق بالمَدِين المعسر:
قال سبحانه: ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون ﴾ [البقرة:280].
ففي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ. فَقَالَ: آللَّهِ ؟ قَالَ: آللَّهِ. قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ »
فوائد الرفق وثماره:
عليكم بالرفق فإنه خلق عظيم، نتائجه عظيمة، وفوائده كثيرة: ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ ».
* الرفق زينة كل شيء؛ ما حل في شيء إلا زانه وجمله وحبّبه إلى النفوس والأبصار، وما نزع من شيء إلا شانه ونفر منه القلوب والأرواح: ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ».
* بالرفق بالعباد يُنال الرفقُ والتجاوز من الله؛ ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت مِن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في بيتي هذا: «اللهمّ مَن وليَ مِن أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومَن وليَ مِن أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به».
وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لاَ. قَالُوا: تَذَكَّرْ. قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، – قَالَ – قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَوَّزُوا عَنْهُ».
* الرفق هو الخير كله؛ من أوتيه فقد حاز الخير كله، ومن حرمه حرم الخير كله: فقد أخرج الترمذي والبيهقي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ».
وفي صحيح مسلم عَنْ جَرِير بن عبد الله البجلي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ».
وأخرج الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ؛ ارْفُقِي، فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ». وفي رواية: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ».
* الرفق طريق إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار؛ فقد أخرج الترمذي في سننه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ».
وأخرج أحمد ومسلم عن عياض بن حمار المجاشعيّ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبته: «أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ… ثم قال: «وأهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسطٌ متصدّقٌ موفّقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكلّ ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفّف ذو عيال».
العنصر الثانى : خطورة الغلو والتشدد
الغلو فى الإعتقاد
لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الغالين وبين صفتهم حين قال: “إنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ ” قَالَ حذيفة بن اليمان: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الرَّامِي أَمِ الْمَرْمِيُّ؟ قَالَ: “بَلِ الرَّامِي”راواه ابن حبان والبزار.
فهذا الغالي دفعه غلوه الاعتقادي إلى التكفير والقتل وزعزعة الأمن. وهذا هو الغالب فيمن غلا في المعتقد وحرف الكلم عن مواضعه أن يغلو في الحكم على الناس، فتارة يفسقهم وتارة يبدعهم وأخرى يكفرهم.
وقد وقف النبي منكرا على من تسرع في الحكم على الناس، ففي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه أنَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وكانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وكانَ يُضْحِكُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ جَلَدَهُ في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ به يَوْمًا فأمَرَ به فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العنْه، ما أكْثَرَ ما يُؤْتَى بهِ؟ فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ”.
فتنزيل الأحكام على شخص بعينه لابد له من تحقق شروط وانتفاء موانع؛ لهذا لا يتصدى لهذه المهمة الجسيمة إلا العلماء، قال الإمام الذهبي رحمه الله: والكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع.
ومن غلا من أمة الإسلام في جانب الاعتقاد ففيه شَبَه من اليهود والنصارى، فقد غلا اليهود في عزير وغلا النصارى في المسيح، قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} (التوبة: 30).
وقد رد الله عليهم زعمهم هذا وأنكر عليهم هذا الغلو فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (النساء: 171). وقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (المائدة: 75).
ومن مظاهر الغلو في الاعتقاد غلو بعض الناس في الصالحين حتى عبدوهم من دون الله، وقربوا لهم القرابين،وسألوهم قضاء الحاجات وشفاء المرضى، ونذروا لهم، وطافوا بقبورهم كطوافهم ببيت الله الحرام، وزعموا أنهم وسطاء بينهم وبين الله تعالى، فشابهوا المشركين الذين أخبر الله عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3). قال ابن كثير رحمه الله: قال قتادة ، والسدي ، ومالك عن زيد بن أسلم ، وابن زيد : (إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي : ليشفعوا لنا ، ويقربونا عنده منزلة .
ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بِرَدِّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [ النحل : 36 ] (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [ الأنبياء : 25 ] .
وأخبر أن الملائكة التي في السماوات من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه، (فلا تضربوا لله الأمثال) [ النحل : 74 ] ، تعالى الله عن ذلك.أ هـ.
الغلو في العمل:
وهو يعني الخروج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم والتشديد على النفس في العمل بزعم زيادة التقرب إلى الله تعالى، وقد نهى النبي عن ذلك فقال: “إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ”رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله- في ” الفتح “: المشادة بالتشديد المغالبة، والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع؛ فيغلب.
وقال صلى الله عليه وسلم: “لا تشدِّدوا على أنفسِكم فيشدِّد اللَّهُ عليْكم فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسِهم فشدَّدَ اللَّهُ عليْهم فتلْكَ بقاياهم في الصَّوامعِ والدِّيارِ ورَهبانيَّةً ابتدعوها ما كتبناها عليْهم”رواه أبوداود. وهنا يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتاب الذين شددوا على أنفسهم، وقال الله عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد: 27).
وقد جرت سنة الله تعالى في هؤلاء الذين أصيبوا بالغلو في العمل أن ينقطعوا عن العمل بالكلية، إلا من أراد هدايته فوفقه للرجوع إلى الطريق المستقيم.
قال ابن المنير: فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ هذا الدينَ متينٌ، فأوْغِلُوا فيه بِرِفْقٍ”رواه أحمد.
وأوصى صلى الله عليه بالقصد مع المداومة فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الأعْمَالِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قَالَ: “أدْوَمُهَا وإنْ قَلَّ”. وقَالَ: “اكْلَفُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ”.
وقال بريدة الأسلمي رضي الله عنه: خرجتُ أمشي فرأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا فظننتُ أنه يريدُ حاجةً، فعارضتُه حتى رآني، فأرسَل إليَّ فأتيتُه ، فأخَذ بيدي فانطلَقنا نَمشي جميعًا، فإذا رجلٌ بين أيدينا يصلِّي يكثرُ الركوعَ والسجودَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “تراه يُرائي؟”، قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، فأرسَل يدي، فقال: “عليكم هديًا قاصدًا؛ فإنه مَن يشادَّ هذا الدينَ يَغلِبْه”رواه أحمد.
وشدد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من الغلو في الأعمال، وبيَّن أن ذلك سبب للهلاك والدمار، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَداةَ العقبةِ وهو على راحلتِه : “هاتِ القَطْ لي”، فلقطتُ له حصَياتٍ مثلَ حصَى الخذْفِ فلمَّا وضعتُها في يدِه قال: “بأمثالِ هؤلاء فارموا وإيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ فإنَّما هلك من كان قبلكم بالغُلوِّ في الدِّينِ”رواه أحمد.
وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من الخروج عن سنته والتشديد على النفس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: “أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي”رواه البخاري.
ومن الوسائل التي يحسن اتخاذها لحماية الابن عن التردي في مهاوي الغلو:
أن تحرص على أن تغرس في ابنك التدين الصحيح الوسطي، البعيد عن الغلو والإفراط، أو التقصير والتفريط.
مداومة تذكير الابن بخطر الغلو والتطرف، وسوء عاقبة الغلاة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ{النساء:171}، وقال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا {هود:112}.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هلك المتنطعون. قالها ثلاثا.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: أي: المتعمقون الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. اهـ.
وفي سنن النسائي من حديث ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقاد والأعمال. اهـ.
أن تربط ابنك بالعلماء الموثوقين، والمشايخ المعروفين بالاعتدال والوسطية، ليحضر مجالسهم، أو ليستمع لدروسهم عبر الوسائط الإلكترونية.
أن تعنى بأن يكون لابنك صحبة صالحة ممن سلكوا طريق التدين الصحيح، ولم ينتهجوا مناهج الغلو أو التفريط
تحذير الابن من متابعة المواقع والصفحات والحسابات المشبوهة، التي تتبنى الغلو أو الانحلال.
الدعاء لابنك بالهداية، وأن يعصمه الله من الزيغ والانحراف.
منزلة الوسطية
الوسطية تتضمن معنى الاستقامة
روى الإمام مسلم في صحيحه، عن سفيان ابن عبد الله الثقفي رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: (قل آمنت بالله، فاستقم)، روى الإمام أحمد في مسنده عن ثوبان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، قال ابن عبد البر: “قوله: (استقيموا) أي: لا تزيغوا وتميلوا عما سن لكم، وفرض عليكم فقد تركتم على الواضحة ليلها كنهارها.
الوسطية تتضمن معنى القصد والمقاربة:
في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا». ومعنى قوله: القصد القصد كما قاله بعض الشراح: أي الزموا الوسط.
قال الطيبي في شرح المشكاة: ” والمقاربة أيضا القصد في الأمور التي لا غلو فيها، ولا تقصير، وعليكم بالقصد في الأمور في القول والفعل، وهو الوسط بين الطرفين من الإفراط والتفريط”.
الوسطية تتضمن معنى التيسير ورفع الحرج:
في حديث أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه) رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر: “أي دين الإسلام ذو يسر، أو سمي الإسلام يسرا مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله”. وهذا يشير إلى وسطية الإسلام مقارنة بالأديان السابقة، من جهة التيسير عما كان عسيرا عليهم، وهذا واضح في كثير من التشريعات الإسلامية، مما يجعله دينا وسطا، كما قال تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) الأعراف: 157.
وفي حديث ابن عباس رضى الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الحنيفية السمحة) رواه الإمام أحمد.
يقول ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين: “وإنما بعث رسوله بالحنيفية السمحة، لا بالغلظة والشدة، وبعثه بالرحمة لا بالقسوة، فإنه أرحم الراحمين، ورسوله رحمة مهداة إلى العالمين، ودينه كله رحمة، وهو نبي الرحمة وأمته الأمة المرحومة “. انتهى.
وقد أرشدت السنة النبوية إلى التوسط في أداء الحقوق الواجبة، والموازنة بينها، وبين الحقوق النفسية، والاجتماعية، كما روى البخاري عن عبدالله بن عمرو رضى الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟) فقلت بلى يا رسول الله، قال: (فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله) – فشددت فشُدِّد علي – قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة. قال: (فصم صيام نبي الله داود عليه السلام، ولا تزد عليه) قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: (نصف الدهر) فكان عبد الله يقول بعد ما كَبِرَ: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم.
العنصر الثالث : فضل العمل التطوعى والتكافل المجتمعى
إنّ قبول التطوع أو رده في ظلّ الشريعة الإسلامية رهين بمجموعة من الضوابط التي لا يصدق على العمل اسم التطوع من الناحية الشرعية إلا بتوفرها، ومن هذه الضوابط يلي:
إخلاص النية: فيشترط فيمن يقوم بالعمل التطوعي أن يكون مخلصًا في عمله حتى يُكتب أجره عند الله؛ فلا ينوي به الحصول على منصب أو مكافأة أو مكانة اجتماعية، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: ١١]، قال ابن القيم رحمه الله: «فأمّا النيّة فهي رأس الأمر وعموده، وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى، فإنّها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، ويصحّ بصحّتها، ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة»
الإرادة الحرة: بأن يكون العمل صادرًا عن طيب نفس لا يخالجه تردّد؛ لأنّها من المعروف والسّخاء[4]، فلا يجوز الإجبار على القيام بعمل وعدّه تطوعًا، كعدم إعطائهم أجرة، أو إضافة أعمال أو ساعات عمل للموظفين دون رضاهم؛ لأنّ الأصل في أموال الناس وجهودهم احترامها، فلا يحلّ لأحد مال غيره أو جهده إلا عن طيب نفس منه، مصداقًا لقول النبي ﷺ: (ولا يحلُّ لامرئ من مالِ أخيه إلا ما طابت به نفسه)
طيب الأصل المتبرع به: فالله تعالى طيّب لا يقبل إلا الطيب، فسواء أكان الأصل المتبرّع به مالاً أو عينًا أو جهدًا، فيجب أن يكون حلالاً طيبًا غير خبيث، والمجال المبذول فيه الجهد حلال وجائز قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٥]. فالآية تُبيّن أنّ الإنفاق يجب أن يكون خيرًا، ولا يكون خيرًا إن كان خبيثًا: «فقوله تعالى: (مِن خير) إشارة إلى أن ما يُنفق يجب أن يكون طيبًا لا خبيثًا، إذ لفظ الخير يدل على ذلك ويرمز إليه»
الالتزام وتحمّل المسؤولية، والإتقان: فالعمل التطوعي في أصله تبرّع، لكن متى ما دخل فيه صاحبه وجب عليه الالتزام به وتحمّل مسؤوليته حتى يتمّه على أكمل وجه، أو يعتذر عنه بما لا يُخلّ به أو يضرّ بالمتطوّع له فردًا كان أو مؤسسة، قال رسول الله ﷺ: (إن الله تعالى يحبُّ إذا عَمِلَ أحدكم عملاً أن يُتقِنَهُ) ومن صور عدم الالتزام نقض العهود والمواثيق والإخلاف بالوعد بعد الالتزام به.
الدُّعَاءِ