جمع وترتيب فضيلة الشيخ : ثروت سويف
إمام وخطيب ومدرس بالأوقاف المصرية
المقدمة
الحمد لله رب الأرض ورب السماء ، خلق آدم وعلمه الأسماء وأسجد له ملائكته ، وأسكنه الجنة دار البقاء وحذره من الشيطان ألد الأعداء، ثم أنفذ فيه ما سبق به القضاء، فأهبطه إلى دار الإبتلاء.
وجعل الدنيا لذريته دار عمل لا دار جزاء، وتجلت رحمته بهم فتوالت الرسل والأنبياء ثم ختمت الرسالات بالشريعة الغراء ونزل القرآن لما في الصدور شفاء، فأضاءت به قلوب العارفين والأتقياء .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ليس له أنداد ولا أشباه ولا شركاء خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء سميع بصير يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء ويسمع دبيبها على الصخرة الصماء.
وأشهد أن سيدنا محمدًا بطل الرسل والأنبياء وإمام المجاهدين والأتقياء والشهيد يوم القيامة على الشهداء دعا أصحابه إلى الهدى فلبَّوُا النداء فإذا ذاته رحمة لهم ونور ، وإذا سلوكه إشراق وضياء
صلى الله عليه قديمًا، وكذا الملائكة في السماء اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء وعلى السائرين على دربه والداعين بدعوته إلى يوم البعث والقضاء
أما بعد :
فقصة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام ثبت أصلها في القرآن ، كما أنها ثبتت بشيء من التفصيل في السنة النبوية انه الحدث تحويل القبلة، وقد كان صلى الله عليه وسلم في مكة يجعل مكة بينه وبين بيت المقدس إذا صلى في الحرم، فيصلي ما بين الركنين، ويستقبل الشام، وأما إذا صلى خارج الحرم، فإنه يستقبل بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة مكث ستة عشر شهراً يستقبل بيت المقدس، ثم قال لجبريل: (وددت لو أن الله جعل مكة أو الكعبة قبلتي، فقال له جبريل: إنما أنا عبد فادع الله واسأله، فأخذ صلى الله وعليه وسلم يدعو ربه ويسأله، ويرجو أن يحقق له مقصوده، ويقلب وجهه في السماء، فأنزل الله جل وعلا قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144])
وأسند يحيى عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقف يصلّي انتظر أمر الله في القبلة، وكان يفعل أشياء مما لم يؤمر بها ولم يُنْهَ عنها من فعل أهل الكتاب، قال: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي، فأشار جبريل: يا محمد صلّ إلى البيت، وصلّى جبريل عليه السلام إلى البيت، قال: فدار النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت، قال: فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} إلى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
وفي هذا اللقاء المبارك نستفتح الحديث عن أول آيات الجزء الثاني من كلام ربنا جل وعلا من كتابه العظيم قال الله وهو أصدق القائلين بسم الله الرحمن الرحيم ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَة* تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَیۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَٰبَ لَیَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا یَعۡمَلُونَ ﴾ البقرة
كنا قد وقفنا عند الوقفة الخامسه والان مع
الوقفة السادسة : الشهادة علي الناس
قال تعالي { لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }
فالأمة أمة نموذجيّة في العقيدة والمنهج، هذه الوسطية جعلت هذه الأمة شاهدة على جميع الأمم، شهادة في الدنيا، وشهادة في الآخرة.
شهادة الدنيا
أن يشهد بعضنا على بعض سواء كانوا: جماعة:
كما الحديث الذي أخرجه الطبراني في الكبير عن يَزِيدَ بْنِ شَجَرَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ وَخَرَجَ النَّاسُ، فَقَالَ النَّاسُ خَيْرًا، وَأَثْنَوْا خَيْرًا، فَجَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَيْسَ كَمَا ذَكَرُوا، وَلَكِنَّكُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، وَأُمَنَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَقَدْ قَبِلَ اللهُ قَوْلَكُمْ فِيهِ، وَغَفَرَ لَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ “ .
روي البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ( مرُّوا بجَنَازَةٍ، فأثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بأُخْرَى فأثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: ما وجَبَتْ؟ قَالَ: هذا أثْنَيْتُمْ عليه خَيْرًا، فَوَجَبَتْ له الجَنَّةُ، وهذا أثْنَيْتُمْ عليه شَرًّا، فَوَجَبَتْ له النَّارُ، أنتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأرْضِ.
أو سواء كانوا جيرانا كالأربعة أبيات أو ثلاثة كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَهْلِ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ، إِلَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا، وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ .
وفي رواية أنس عند أحمد : أَرْبَعَةُ أَهْلِ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ.
وحتى لو كان الشهود اثنين من الأمة :
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ، شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ» فَقُلْنَا: وَثَلاَثَةٌ، قَالَ: «وَثَلاَثَةٌ» فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ، قَالَ: «وَاثْنَانِ» ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ .
فهذا من فضل الله علي هذه الأمة الميمونة
شهادة الآخرة
ولما جعل الله هذه الأُمة وسطًا خصّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأصح المذاهب، كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]
فهى الشهادة على الأمم فرسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا علينا ونحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء علي الناس
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ما أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [آية: 143]». وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ. رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه
وفي رواية احمد ” فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم”.
وروي الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ” يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا. فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَيُدْعَى وَأُمَّتُهُ ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُقَالُ: وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جَاءَنَا نَبِيُّنَا فَأَخْبَرَنَا: أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ: يَقُولُ: عَدْلًا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أنا وأُمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس إلا ودّ أنه مِنّا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز وجل”
وروى الحاكم في مستدركه وابن مردويه أيضًا، واللفظ له من حديث مصعب بن ثابت، عن محمد بن كعب القرظي، عن جابر بن عبد الله قال: شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني سلمة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: والله يا رسول الله لِنَعْم المرء كان، لقد كان عفيفًا مسلمًا، وكان: وأثنوا عليه خيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنت بما تقول”. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “وجبت”، ثم شهد جنازة في بني حارثة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: يا رسول الله، بئس المرء كان، إن كان لَفظًّا غليظًا، فأثنوا عليه شرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: “أنت بالذي تقول؟ “. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر فأمّا الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وجبت”. قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وروي الإمام أحمد: عن عبد الله بن بُريدة، عن أبي الأسود أنه قال: أتيت المدينة فوافقتها، وقد وقع بها مرض، فهم يموتون موتًا ذريعًا، فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرّت به جنازة، فأُثنى على صاحبها خيرًا، فقال: وجبت، وجبت، ثم مرّ بأخرى فأُثنى عليها شرًا، فقال عمر: وجبت. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيما مسلم شَهِد له أربعة بخير أدخله الله الجنة”. قال: فقلنا: وثلاثة؟ قال: فقال: “وثلاثة”. قال: فقلنا: واثنان؟ قال: “واثنان”. ثم لم نسأله عن الواحد.
وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات به.
وروي ابن مردويه عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي [عن أبيه] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّباوة يقول: “يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم”. قالوا: بمَ يا رسول الله؟ قال: “بالثناء الحسن والثناء السيئ، أنتم شهداء الله في الأرض “أخرجه ابن ماجه، السنن
الوقفة السابعة : تحويل القبلة تصفية واختبار
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}.
يقول تعالى: إنما شرعنا لك يا محمد التوجُّه أولًا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنه إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه؛ أي: مرتدًا عن دينه.
{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي: هذه الفعلة وهو: صرف التوجُّه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا لأمرًا عظيمًا في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكًا كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق
فتغيير القبلة جعله الله سبحانه اختبارا إيمانيا ليس علم معرفة ولكن علم مشهد ، لأن الله سبحانه وتعالى يعلم ، ولكنه جل جلاله يريد أن يكون الإنسان شهيدا على نفسه يوم القيامة ، ولكنه اختبار إيماني ليعلم الله مدى إيمانكم ومن سيطيع الرسول فيما جاءه من الله ومن سينقلب على عقبيه ، فكأن أمر تحويل القبلة سيحدث هزة إيمانية عنيفة في المسلمين أنفسهم ، فيعلم الله من يستمر في إيمانه واتباعه لرسول الله ، ومن سيرفض ويتحول عن دين الإسلام.
وقوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَاّ عَلَى الذين هَدَى الله} والله يريد هنا العلم الذي سيكون شهيدا على الناس يوم القيامة ، وعملية الابتلاء أو الاختبار في تغيير القبلة عملية شاقة. . إلا على المؤمنين الذين يرحبون بكل تكليف ، لأنهم يعرفون أن الإيمان هو الطاعة ولا ينظرون إلى علة الأشياء.
ولكن الكفار والمنافقين واليهود لم يتركوا عملية تحويل القبلة تمر هكذا فقالوا: إن كانت القبلة هي الكعبة فقد ضاعت صلاتكم أيام اتجهتم إلى بيت المقدس ، وإن كانت القبلة هي بيت المقدس فستضيع صلاتكم وأنتم متجهون إلى الكعبة.
ولقد مات أناس من المؤمنين وهم يصلون إلى بيت المقدس فقام المشككون وقالوا صلاتهم غير مقبولة ، ورد الله سبحانه بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، لأن الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس كانوا مطيعين لله مؤمنين به فلا يضيع الله إيمانهم
{لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوبها عند الله
وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه
وقوله تعالى: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ، أي تذكروا أنكم تؤمنون برب رءوف لا يريد بكم مشقة ، رحيم يمنع البلاء عنكم
وفي صحيح البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قُلْنَا: لَا وَهيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ. فَقالَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا »
الوقفة الثامنة : غاية تحويل القبلة ( فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَة تَرۡضَىٰهَاۚ )
قال تعالي { قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَة تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَیۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَٰبَ لَیَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا یَعۡمَلُونَ}البقرة 144
كانت لإرضاء رسول الله لأن اراد ان يتفرد ويخالف اليهود والنصاري وكان يحبة الإتجاه لقبلة ابي الأنبياء ابراهيم الحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ، أنه يحب ويشتاق أن يتجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس ، وكان عليه الصلاة والسلام ُ قد اعتاد أن يأتيه الوحي من علو ، فكأنه صلى الله عليه وسلم َ كان يتجه ببصره إلى السماء مكان إيتاء الوحي وهذا من إكرام الله لنبيه، فولى صلى الله عليه وسلم وجهه تجاه الكعبة
لما قلب وجهه ولم يتكلم حول الله وجهه شطر ما اراد وهو المسجد الحرام وقال له قبلة ترضا ولم يقل نرضاها لك قَدْ للتحقيق {نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظاراً لنزول الوحي، يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس، لرغبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مخالفة اليهود، ولحبه لقبلة أبيه إبراهيم وهي أول قبلة وأفضلها، وأدعى للعرب إلى الإيمان، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم. {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فنوجهنك أو فنحولنك إلى القبلة التي تحبها وتطمئن إليها وهي الكعبة، ولما كان الرضي مشعرا بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تحبها أو تهواها ﴿وَلَسَوۡفَ یُعۡطِیكَ رَبُّكَ فَتَرۡضَىٰۤ ﴾ الضحي
فهل معنى ذلك أن القبلة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم َ وهي بيت المقدس لم يكن راضيا عنها؟ نقول لا. . وإنما الرضا دائما يتعلق بالعاطفة، وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل. . ولذلك لا يقول أحد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لم يكن راضيا عن قبلة بيت المقدس. . وإنما كان يتجه إلى بيت المقدس وفي قلبه عاطفة تتجه إلى الكعبة. . هذا يدل على الطاعة والالتزام
روي الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ « أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلَا قَوْلَ اللهِ عز وجل فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الْآيَةَ. وَقَالَ عِيسَى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ، أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عز وجل يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟
فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ »