مليون خطبة عن عقوق الآباء مقابلها خطبة واحدة عن عقوق الأبناء

بقلم الكاتبة : أسماء أبو زيد

 

في كل منبر، وعلى كل لسان، نسمع التحذيرات المتكررة من عقوق الوالدين، وكيف أن الأبناء يجب أن يكونوا بارّين بآبائهم، وإلا كانوا في الدرك الأسفل من الأخلاق، وربما المصير. لكن حين ننظر إلى الجانب الآخر، إلى الأبناء الذين يُعانون من آباء نرجسيين، متسلطين، أو حتى مؤذين، نجد الصمت يخيم على المنابر، وكأن الحديث عن ذلك محرّم أو غير جدير بالاهتمام.

لماذا تُسكت مجتمعاتنا عن عقوق الآباء لأبنائهم؟ لماذا يُطلب من الأبناء الامتثال المطلق حتى وإن كان الثمن تدميرهم نفسيًا وجسديًا؟

العقوق ليس طريقًا واحدًا

يُعرّف العقوق بأنه التقصير أو الإساءة في العلاقة التي يفترض أن تقوم على الحب والاحترام. لكن المجتمع يتجاهل أن العقوق ليس فقط ما يفعله الأبناء، بل هو أيضًا ما يمارسه الآباء حين يتسببون في معاناة أبنائهم نفسيًا أو عاطفيًا، سواء بالإهمال أو القسوة أو التسلط.

جاء في القرآن الكريم الأمر ببر الوالدين مقرونًا بعبادة الله، لكنه في ذات الوقت لم يمنحهم الحق في الظلم أو التسلط، قال تعالى:

﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُواْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا﴾ (الإسراء: 23).

لكن في المقابل، نجد أن الله أمر بعدم الطاعة في المعصية، حتى لو كان الآباء هم من يأمرون بها، فقال سبحانه:

﴿وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَا وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗا﴾ (لقمان: 15).

إذن، الطاعة ليست مطلقة، والبر لا يعني القبول بالظلم أو الإهانة أو الانتهاك النفسي.

الآباء النرجسيون.. الوجه الآخر للعقوق

النرجسية عند الآباء ليست مجرد صفة، بل نمط حياة مدمر. يتوقع الآباء النرجسيون من أبنائهم أن يكونوا امتدادًا لهم، أن يعيشوا وفق تصوراتهم، أن يتخلوا عن أحلامهم، وأن يكونوا عبيدًا لعواطفهم المتقلبة. يطالبون بالحب دون أن يمنحوه، وبالاحترام دون أن يستحقوه، ويزرعون في أبنائهم مشاعر الذنب والدونية حتى يفقدوا القدرة على رؤية قيمتهم الحقيقية.

وقد حذر النبي ﷺ من ظلم الأبناء، فقال: “اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم” (رواه البخاري ومسلم).

كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه رجل يشتكي عقوق ابنه، فأحضر عمر الفتى وعاتبه، فقال الابن:
“يا أمير المؤمنين، أليس للابن حقوق على أبيه؟”
قال عمر: “بلى.”
فقال: “إن أبي لم يحسن اسمي، ولم يعلمني شيئًا من القرآن، ولم يعلمني شيئًا من الأدب.”
فالتفت عمر إلى الرجل وقال: “لقد عققته قبل أن يعقك.”

وهذا يوضح أن العقوق قد يبدأ من الآباء قبل الأبناء، وأن من لا يعدل في حق أبنائه لا يستحق أن يطالبهم بالبر.

هل إيجاد الحجة على الوالدين عقوق؟

تتردد على ألسنة الناس مقولة: “إيجاد الحجة على الوالدين عقوق لهم”، وكأن الأب يجب أن يكون معصومًا من الخطأ، وأي محاولة لنقده أو تصحيح مساره تُعد تمردًا.

لكن الحقيقة أن الإسلام لم يجعل الوالدين فوق النقد، بل أكد على أهمية النصح والتوجيه بالمعروف. فالوالد ليس إلهًا معصومًا، بل بشر يخطئ ويصيب، ويجب عليه أن يكون قدوة حسنة، لا أن يستخدم بر الوالدين كذريعة لممارسة الظلم.

حتى النبي ﷺ، وهو المعصوم، كان يُسأل ويناقش، وكان يقبل النصح والتوجيه، فكيف يُحرم على الأبناء أن يناقشوا آباءهم بالحكمة والموعظة الحسنة؟

ومن المواقف التي تدل على أن النبي ﷺ لم يكن يستبد برأيه، موقفه في غزوة بدر ، عندما نزل النبي ﷺ بالجيش في موقع معين، جاءه الحُباب بن المنذر رضي الله عنه وسأله:
“يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟”

فقال النبي ﷺ: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة.”

فقال الحُباب: “يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فنعسكر هناك، ثم نغور ما وراءه من الآبار فلا يجدوا ماءً يشربون منه.”

فأخذ النبي ﷺ برأيه، وانتقل إلى الموقع الجديد، وكان ذلك من أسباب انتصار المسلمين في بدر.

إذا كان النبي ﷺ، وهو المعصوم، قد قبل النقاش وغيّر قراره بناءً على مشورة أصحابه، فكيف يُقال إن مناقشة الوالدين وتصحيح أخطائهم عقوق؟

قصة رجل ظلم ابنه في عهد النبي ﷺ

جاء في الأثر أن رجلاً من الأنصار كان قاسيًا على ابنه، يحرمه من العطف ويظلمه في العطاء، فاشتكى الابن إلى النبي ﷺ، فاستدعى النبي الرجل وسأله عن ذلك، فقال الأب: “إنه ابني ومالي أفعل به ما أشاء.”

فقال له النبي ﷺ: “إن لأولادك عليك حقًّا، ألا تحب أن يبرك ولدك؟”

فقال الرجل: “بلى، يا رسول الله.”

فقال النبي ﷺ: “اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم.” (رواه البخاري ومسلم).

الخاتمة: حان وقت كسر الصمت

إن برّ الوالدين لا يعني تقبل الأذى، والطاعة لا تعني الخضوع المطلق، والعلاقات الأسرية يجب أن تُبنى على الاحترام المتبادل، وليس على الاستبداد والتسلط.

كما قال الشاعر:
إذا كان ربُّ البيتِ بالدفِّ ضاربًا… فشيمةُ أهلِ البيتِ كلُّهمُ الرَّقصُ

فلا يمكننا أن نطلب من الأبناء البرّ دون أن نطلب من الآباء العدل.

لقد حان الوقت لكسر هذا الصمت، والاعتراف بأن العقوق طريق ذو اتجاهين.

تعليق واحد

  1. باسم الله ماشاء الله
    مقال في منتهى الروعة والجمال
    بالفعل نحتاج إلى الحديث عن عقوق الوالدين حتى نتجنب عقوق الأبناء
    جزاك الله خير الجزاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *