أهم مشاكل التصوف المعاصر (٢)
4 فبراير، 2025
منهج الصوفية

بقلم فضيلة الشيخ : مخلف العلي القادري الحذيفي
خادم الطريقة القادرية البريفكانية العلية
المشكلة السادسة : وهي المغالاة بالمشايخ والطرق الصوفية من قبل المريدين، مع علم ورضا وقبول من مشايخهم، إلا ما رحم ربي ، وتتجلى المغالاة برفع الشيخ لغير مقامه، أو وصفه بما ليس فيه، أو جعله فوق غيره من المشايخ مع إساءة الأدب لغيره، ورفض الحق إلا ما صدر عن شيخه وإن كان أقرب للباطل، وتلبيس الطريقة بما ليس فيها ، وحكر الوصول إلا من خلالها كما يزعم البعض، فمن انتسب إليها نجى وفاز، ومن تخلف عنها هلك وخسر، نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين.
نتائجها : وقد أدت هذه المشكلةإلى انشغال الكثير من المريدين اليوم بالصراع فيما بينهم، كل يقول شيخي الغوث وطريقتي هي العليا، بل تجاوزوا هذا فصار الكثير يدعي أن شيخه هو ختم الأولياء، وشيخه وزير من وزراء المهدي، ووصل بالبعض أن ينسب لشيخه ويصفه بما لا يجوز إلا بحق الله أو بحق رسله، ولا ندري ما نسمع أيضاً في هذا الزمان، فهو زمن العجائب، فنتج عن هذا الصراع خلاف واختلاف بين الطرق غير مسبوق، فانطبع في قلوب الناس وعقولهم ونفوسهم صوراً سيئة عن التصوف وأهله، فنفروا منه وحاربوه، لما يروه من سوء خلق أتباعه.
المشكلة السابعة : وهيغلبة التصوف النظري والفلسفي الذي ينتج عنه المعرفة والاطلاع على طريق القوم، على التصوف العملي الذي ينتج عنه تزكية النفس وسلامة القلب واستقامة الجوارح ، والصحيح هو الالتزام بالتصوف العملي، لأنه الأصل في السير والسلوك إلى الله، والأصح هو الجمع بينهما.
نتائجها : وقد أدت هذه المشكلةإلى ظهور جيل من المتصوفة تخالف أقوالهم أفعالهم، التصوف الحقيقي في واد وهم في واد آخر، تصوف لسان دون تصوف القلب والجوارح، مما أدى لفقد الثقة بالتصوف وأهله، بل وصار البعض منهم يصور التصوف إلى أنه عالم من الخيالات والتصورات والمعارف والأقوال والأحوال التي تدور حول المحبة والعشق والهيام، والاستغراق في عوالم خفية باطنية، ليصوروا للناس أنهم خواص الله تعالى في عالم الملك والملكوت ، يؤدي هذا بمجمله إلى ترك الكثير من التكاليف والواجبات والحقوق، وهجر السنن والآداب والنوافل، ويتبجحون ببعض الأقوال الواهية ، والترهات البدعية ، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، عاكفين على كتب بعض الصالحين الذين هم منهم براء ككتب الشيخ ابن عربي والشيخ عبد الكريم الجيلي والشيخ السهروردي وغيرهم، وهذا من أسوء ما ينتج عن التعمق بالتصوف الفلسفي والنظري دون التصوف العملي.
المشكلة الثامنة: وهيغلبة الأناشيد والمدائح على الإرشاد والعلم في غالب مجالس الصوفية اليوم، إلا ما رحم ربي ، وهذا للأسف أصبح واضحاً جلياً للجميع، ولو نظرت في واقع أغلب الطرق الصوفية اليوم لا تجد لديهم إلا مجالس المديح والإنشاد، والتمسك بقليل من الأوراد .
نتائجها: وقد أدت هذه المشكلةإلى انحراف أغلب الصوفية اليوم عن غاية التصوف وثمرته الحقيقية، وتعلقهم بالمديح لأقصى درجة، فلا يعرف المريد من تصوفه وطريقته إلا مجلس الذكر، يفرغ به طاقته ويقضى نهمته ، وشهوته الخفية، حتى صار مجلس المديح هو الغاية المرجوة ، والتسابق بين المريدين لادعاء الأحوال التي تعتريهم في المجالس، وغلبة الوجد عليهم، تاركين وراء ظهورهم الإرشاد والعلم والمجاهدة والتزكية والسلوك.
ونحن لا ننكر المديح والإنشاد ، على العكس تماماً نحبه ونعشقه ونسعد بسماعه، لكن الطريق والتصوف لا يبنى عليه، بل هو زينة للحال ، وترويح عن النفس والقلب، وسعادة للروح، ليس أكثر من ذلك، ولو رجعت لأقوال أئمة الطريق رضوان الله تعالى عليهم في ذلك لعرفت أن كثيراً منهم كان ينهى عنه، ومنهم من وضع له ضوابط وشروط، فافهم وفقني الله تعالى وإياك لما فيه الخير.
هذه أهم وأبرز المشاكل التي يعاني منها التصوف المعاصر، وهناك الكثير منها لا يتسع الوقت لذكرها، ولعلنا نخصص مقالة أخرى لذكرها، وقد اكتفينا بهذه المقالة بالهم والأبرز والأخطر منها.
وفى الختام : يتبين لكل باحث ومهتم بعلم التصوف الأسباب التي أدت إلى تراجع التصوف والصوفية في هذا الزمان، ويتجلى بوضوح سبب نفور الناس منه.
والحق يقال: أن مثل هذا التصوف يرفضه كل عاقل يريد الله سبحانه وتعالى، فمثل هذا التصوف لا يطلبه إلا من كان يبحث عن نفسه وشهرته، أو من كان جاهلاً بحقيقة طريق التصوف، الذي كان طريق جميع العلماء والأولياء، واليوم ينفر منه حتى بعض السفهاء، ويعيب أهله كل من هَبَّ وَدَبَّ، ومن يعرف ومن لا يعرف، نسأل الله تعالى لنا العافيةوالسلامة، وقد نظمت أبياتاً في هذا المعنى أقول فيها:
لَقَدْ أَمْسَى طِرِيقُ الْقَوْمِ حِرْفَةً
|
وَعَاثَتْ فِي مَعَالِمِهِ الرِّعَاعُ
|
سُلُوكُ طَرِيقِهِمْ قِيلٌ وَقَالُ
|
وَمَجْلِسُ ذِكْرِهِمْ صَارَ السَّمَاعُ
|
حَمَلْتُ بِضَاعَتِي وَرَحَلْتُ عَنْهُمْ
|
فَمِثْلُ بِضَاعَتِي أَنَّى يُبَاعُ
|
وَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّ الْبُعْدَ خَيْرٌ
|
وَأَنَّ الصَّمْتَ فِيهِ الْاِنْتِفَاعُ
|
فَمَا عَادَ الطَّرِيقُ كَمَا عَهِدْنَا
|
وَمَا مِنْ حِيلَةٍ إِلَّا الْوَدَاعُ
|
نسأل الله تعالى العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين.
بقلم: مخلف العلي القادري
12/8/1444هـ – 4/3/2023