خطبة بعنوان ( نعمة الأمن واستلهام الدروس المستفادة من الإسراء والمعراج ) لفضيلة الشيخ ياسر عبدالبديع
22 يناير، 2025
خطب منبرية

خطبة الجمعة القادمة لفضيلة الشيخ : ياسر عبدالبديع
بتاريخ 24 يناير 2025م – 24 رجب 1446 هجرية
المقدمة
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ نعمة الأمن واستلهام الدروس المستفادة من الإسراء والمعراج
كَانَتْ مُعْجِزَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ مِنْ أَجَلِّ ما أنعم بِه الله سُبْحَانَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلِأَهَمِّيَّة هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ فَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ فِي مَوْضُوعَيْنِ , الْأَوَّلُ : فِي سُورَةٍ سُمِّيَتْ بِاسْمِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ وَهِيَ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ وَاَلَّتِي بَدَأَهَا سُبْحَانَهُ : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 1 ) سُورَةِ الْإِسْرَاءِ .
وَالثَّانِي فِي سُورَةِ النَّجْمِ قَالَ تَعَالَى : وَالنَّجْمُ إِذَا هَوَى ( 1 ) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( 2 ) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ( 4 ) عِلْمُهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( 5 ) ذُو مَرَّةٍ فَاسْتَوَى ( 6 ) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ( 7 ) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( 9 ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( 10 ) مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( 11 ) أَفَتَمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( 12 ) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِنْدَ سَدْرَةِ الْمُنْتَهَى ( 14
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) سورة النجم .
العنصر الأول الْآيَاتُ الْكُبْرَى
وَمُعْجِزَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فِيهَا مَشَاهِدُ عَظِيمَاتٌ وَآيَاتٌ بَاهِرَاتٌ يَتَعَلَّمُ مِنْهَا الْمُسْلِمُ الدُّرُوسَ وَالْعِبَرَ وَالَّتِي مِنْهَا :
1 – الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ وَإِلْتِزَامُ الْمَبْدَأِ :
وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ الْمَشْهَدِ الَّذِي رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاشِطَةَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الَّتِى أُسْرَى بِى فِيهَا أَتَتْ عَلَى رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ فَقَالَ هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا . قَالَ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهَا قَالَ بَيْنَا هَى تُمَشِّطُ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمُدْرَى مِنْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ . فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ أَبِى قَالَتْ لَا وَلَكِنَّ رَبِّى وَرَبُّ أَبِيكَ اللَّهُ . قَالَتْ أَخْبِرْهُ بِذَلِكَ قَالَتْ نَعَمْ . فَأَخْبَرْتُهُ فَدَعَاهَا فَقَالَ يَا فُلَانَةُ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرَى قَالَتْ نَعَمْ رَبِّى وَرَبُّكِ اللَّهُ . فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ
أَمِرَ بِهَا أَنْ تَلْقَى هَى وَأَوْلَادُهَا فِيهَا قَالَتْ لَهُ إِنَّ لِى إِلَيْكِ حَاجَةً . قَالَ وَمَا حَاجَتُكَ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامَى وَعِظَامَ وَلَدَى فَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدِفَّنَنَا . قَالَ ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ . قَالَ فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأَلْقَوْا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبًى لَهَا مُرْضِعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ يَا أُمَّهُ اقْتَحِمَى فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ 309 ( 2822 ) .
2 – أَهَمِّيَّةُ الصَّلَاةِ وَمَنْزِلَتُهَا فِي الْإِسْلَامِ :
وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي فُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبِدُونِ وَاسِطَةٍ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةَ كُلِّ يَوْمٍ ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى ، فَقَالَ : بِمَا أَمَرْتَ ، قُلْتُ : أُمِرْتَ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ : إنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ ، وَإِنِّي وَاَللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ ، وَعَالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ ، فَرَجَعْتُ ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ ، فَرَجَعْتُ ، فَأَمَرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ ، فَرَجَعْتُ ، فَأَمَرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ ، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى ، فَقَالَ : بِمَ أَمَرْتَ ؟ قُلْتُ : أَمَرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ : إنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ ، وَعَالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ ؛ فَارْجِعْ إلَى رَبِّكَ ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ ! قَالَ : سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ ، وَلَكِنِّي أَرْضَى ، وَأَسْلَمُ . . . فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ : أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي ، وَخَفَّفْتُ عَن عبادى
البخارى 3598
3 الْفَاحِشَةُ سَبَبٌ لِإِنْتِشَارِ الْأَمْرَاضِ وَالْبَلَاءَاتِ :
وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْمَشْهَدِ , فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ قَالَ : ثُمَّ مَضَيْتُ هُنَيْهَةً ، فَإِذَا أَنَا بِأُخُونَةٍ ، عَلَيْهَا لَحْمٌ مِشْرِّحٌ ، لَيْسَ يَقْرَبُهُ أَحَدٌ ، وَإِذَا أَنَا بِأُخُونَةٍ ، عَلَيْهَا لَحْمٌ قَدْ أَرْوحَ وَنَتَنَ ، عِنْدَهَا أُنَاسٌ يَأْكُلُونَ مِنْهَا ، قُلْتُ : يَاجُبْرِيلُ ، مَاهَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِك ، يَتْرُكُونَ الْحَلَالَ وَيَأْتُونَ الْحَرَامَ . الْبَيْهَقِيُّ : دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ 392 .
لِذَا فَقَدَ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ انْتِشَارِ الْفَاحِشَةِ ( الزِّنَا ) وَكَذَا التَّبَرُّجُ وَالسُّفُورُ وَجَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْتِشَاءِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْجَاعِ فَقَالَ : ” لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَةَ ( 4019 ) .
4 – مَكَانَةُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي الْإِسْلَامِ :
لِلْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قُدْسِيَّةً كَبِيرَةً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ ارْتَبَطَتْ بِعَقِيدَتِهِمْ مُنْذُ بِدَايَةِ الدَّعْوَةِ . فَهُوَ يُعْتَبَرُ قِبْلَةَ الِانْبِيَاءِ جَمِيعًا قَبْلَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقِبْلَةُ الْأُولَى الَّتِي صَلَّى بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْلَةَ
الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ حَيْثُ أَسْرَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَفِيهِ صَلَّى النَّبِيُّ إِمَامًا بِالْأَنْبِيَاءِ وَمِنْهُ عَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ . وَهُنَاكَ فِي السَّمَاءِ الْعُلْيَا فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ .
وَيُعْتَبَرُ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ الْمَسْجِدُ الثَّالِثُ الَّذِي تُشَدُّ إِلَيْهِ الرِّحَالُ ، فَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ الْوَحِيدَةَ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَالُ هِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ، وَ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى » . صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ بِرَقْمِ ( 1189 ) ، وَصَحِيحُ مُسْلِمٍ ( 1397 ) .
أَوَّلُ مَا تُمَثِّلُهُ الْقُدْسُ فِي حِسِّ الْمُسْلِمِينَ وَفِي وَعْيِهِمْ وَفِكْرِهِمْ الدِّينِيِّ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ الْأُولَى الَّتِي ظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَصْحَابُهُ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا فِي صَلَاتِهِمْ مُنْذُ فُرِضَتْ الصَّلَاةُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ وَظَلُّوا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا فِي مَكَّةَ ، وَبَعْدَ هِجْرَتِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لِلْحَقِّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظُلِمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلَأَتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [ الْبَقَرَةِ : 149 ، 150 ] .
الْقُدْسُ ثَالِثُ الْمُدُنِ الْمُعَظَّمَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَمكة هى التى شرفها اللَّهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَدِينَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ طِيبَةُ ( أَيْ الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ ) ، الَّتِي شَرَّفَهَا اللَّهُ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ ، وَالَّتِي ضَمَّتْ قَبْرَهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ، وَالثَّالِثَةُ مَدِينَةُ الْقُدْسِ ، الَّتِي شَرَّفَهَا اللَّهُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى .
وَقَدْ أَعْلَنَ الْقُرْآنُ عَنْ أَهَمِّيَّةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَبَرَكَتِهِ ، قَبْلَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ ، وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَوَاتٍ ، وَالْإِسْلَامِ حِينَ جَعَلَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ثَالِثَ الْمَسْجِدَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَبِالتَّالِي أَضَافَ الْقُدْسَ إِلَى الْمَدِينَتَيْنِ الْإِسْلَامِيَّتَيْنِ الْمُعَظَّمَتَيْنِ ( مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ) لِيُقَرِّرَ مَبْدَأً هَامًّا مِنْ مَبَادِئِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ جَاءَ لِيَبْنِيَ لَا لِيَهْدِمَ ، وَلِيُتَمِّمَ لَا لِيُحَطِّمَ ، فَالْقُدْسُ كَانَتْ أَرْضَ النُّبُوَّاتِ ، وَالْمُسْلِمُونَ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ : ( ( نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ ) ) .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ انْهَا أَرْضُ الْبَرَكَةِ فَى غَيْرٍ مِنْ مَوْضِعٍ فَى الْقُرْآنِ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْله [ الْإِسْرَاءِ : 1 ] فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ حِينَ وُصَفَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِهَذَا .
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِين] [ الْأَنْبِيَاءِ : 71 ] حِينَ تَحَدَّثَ فِي قِصَّةِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ .
العنصر الثانى تكريم النبى
التَّكْرِيمُ الْأَوَّلُ : التَّكْرِيمُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْكَرِيمِ جَلَّ جَلَالُهُ :
مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ ، وَأَنْ يَقِفَ عَلَى شَرَفِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ ، لِيَنْظُرَ إِلَى آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ
وَذَكَّرَهُ سُبْحَانَهُ بِسَمَةِ الْعُبُودِيَّةِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ ، فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ حَيْثُ : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [ الْإِسْرَاءِ : 1 ] ، وَفِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ حَيْثُ قَالَ : وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [ الْجِنِّ : 19 ] ، وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [ الْبَقَرَةِ : 23 ]
اَلتَّكْرِيمُ اَلثَّانِي : شَقَّ اَللَّهُ تَعَالَى
لِصَدْرِهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أَمَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَمِنْ صُوَرِ التَّكْرِيمِ التَّهْيِئَةُ لِلِقَائِهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِشِقِّ صَدْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” فَرَّجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَفَرَّجَ صَدْرِي ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطُسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ . . ” [ 1 ] .
كَانَتْ هَذِهِ الْعَمَلِيَّةُ الْعَجِيبَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْدَادِ لِلرِّحْلَةِ الْمَهُولَةِ الْقَادِمَةِ ، رِحْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ ، بَلْ إِنْ شِئْتَ فَقُلْ : إِنَّ عَمَلِيَّةَ شَقِّ الصَّدْرِ وَرِحْلَةَ الْإِسْرَاءِ كَانَتَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْدَادِ لِرِحْلَةِ الْمِعْرَاجِ إِلَى الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى ، وَاخْتِرَاقِ السَّنَوَاتِ ، وَالْحِوَارِ مُبَاشَرَةً مَعَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ! لَقَدْ كَانَ إِفْرَاغُ الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ فِي الْقَلْبِ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ أَمْرًا ضَرُورِيًّا لِإِتْمَامِ الْحَدَثِ الْمَهِيبِ !
اَلتَّكْرِيمُ الثَّالِثُ : التَّكْرِيمُ بِالصَّلَاةِ بِالْأَنْبِيَاءِ إِمَامًا :
إِخْوَةُ اَلْإِيمَانِ ، مِنْ مَظَاهِرِ تَكْرِيمِ اَللَّهِ تَعَالَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنْ جَعَلَهُ اَللَّهُ تَعَالَى إِمَامًا لِلْجَمِيعِ ، فَأُمُّهُمْ وَصَلَى بِهِمْ وَفِي هَذَا تَفْضِيلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : ( . . . وَقَدْ رَأَيْتنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ صَاحِبُكُمْ – يَعْنِي : نَفْسَهُ – فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ ) [ 2 ] .
التَّكْرِيمُ الرَّابِعُ : الصُّعُودُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى :
وَمِنْ أَجَلِّ صُوَرِ التَّكْرِيمِ أَنْ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْزِلَةٍ وَمَكَانٍ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ إِلَّا وَهُوَ سِدْرَةُ الْمُنْهَى ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سَدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [ النَّجْمُ : 13 – 16 ] .
إِنَّهَا اللَّحْظَةُ الْوَحِيدَةُ فِي الرِّحْلَةِ الَّتِي عَاشَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دُونَ صُحْبَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَالْمُسْتَوَى الَّذِي رُفِعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْمَحُ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ الْمَلَائِكَةِ أَنْ يَقْتَرِبَ مِنْهُ !
هُنَا كَانَ اللِّقَاءُ فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى شَجَرَةً عَظِيمَةً فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، وَهِيَ حَدٌّ فَاصِلٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ أَحَدٌ ؛ فَهِيَ الْمُنْتَهَى لِكُلِّ رِحْلَةٍ ، إِلَّا رِحْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ يَقُولُ النَّوَوِيُّ : سُمِّيَتْ سَدْرَةَ الْمُنْتَهَى ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْمَلَائِكَةِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا ، وَلَمْ يُجَاوِزْهَا أَحَدٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ 7 ]
يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” ثُمَّ رُفَعَتْ إلَيَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، فَإِذَا نَبُقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هُجْرَ ، وَإِذَا وَرَقُهَا
مِثْلَ آذَانِ الْفِيَلَةِ ، قَالَ : هَذِهِ سَدْرَةُ الْمُنْتَهَى ” [ 8 ] ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : ” فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعُتَهَا مِنْ حُسْنِهَا ” [ 9 ] .
وَيَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ” لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدِرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَعْرُجُ بِهِ مِنْ الْأَرْضِ فَيَقْبِضُ مِنْهَا ، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ بِهِ مَنْ فَوْقِهَا فَيَقْبِضُ مِنْهَا ” ، قَالَ : إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يُغْشَى [ النَّجْمِ : 16 ] ، قَالَ : ” فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ ” [ 10 ] ،
العنصر الثالث الدُّرُوسُ وَالْعِبَرُ
ذِكْرُ اَللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ :
تَبْدَأُ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ ” سُبْحَانَ ” فِيهَا التَّنْزِيهُ وَالتَّعْظِيم وَالْإِجْلَالُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ مِنْ أَلِفِهَا إِلَى يَائِهَا ، فَكَانَتْ الْمُعْجِزَةُ كُلُّهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَبِقُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ تَتَعَلَّمُ دَرْسَ التَّسْبِيحِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّمْجِيدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُفَادُ ذَلِكَ :
أَنْ تَعِيشَ الْأُمَّةُ مَسْبَحَهُ لِلَّهِ . . . أَنْ تَعِيشَ الْأُمَّةُ ذَاكِرَةً لِلَّهِ . . . . . . . . . . أَنْ تَعِيشَ الْأُمَّةُ مَوْصُولَةً بِذِكْرِهَا وَتَسْبِيحِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلِمَا لَا تَعِيشَ الْأُمَّةُ مُسَبِّحَةً لِرَبِّهَا وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُسَبَّحٌ لِلَّهِ يَقُولُ تَعَالَى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسْبَحُ بِحَمْدِهِ ( اَلْإِسْرَاءِ : مِنْ الْآيَةِ 44 ) . وَأَيْضًا اللُّجُوءُ وَالتَّضَرُّعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَى دُعَاءِ الْحَبِيبِ الْمُصْطَفَى
اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ، إِلَى مَنْ تَكِلُّنِي ، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي ، أَوْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَكْتَهُ أَمْرِي ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ ، أَوْ يَحُلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ .
أَصْلُ اَلدِّينِ وَاحِدٌ هُوَ اَلتَّوْحِيدُ :
إِنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ بَعَثَهُمْ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ لِيُعَرِفُوهُمْ بِاللَّهِ ، وَكَيْفَ يَعْبُدُونَهُ ؛ لِيُعَلِّمُوهُمْ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ ، قَالَ تَعَالَى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الْأَنْبِيَاءِ : 25 ] . وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ رِسَالَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةٌ ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا إِخْوَةٌ ، وَقَدْ أَكَّدَ رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِي مُنَاسَبَاتٍ عِدَّةٍ ، مِنْهَا : قَوْلُهُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ يُونُسَ ” أَخِي كَانَ نَبِيًّا ، وَأَنَا نَبِيٌّ ” تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ” أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعِلَاتٍ ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ ” رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَالْعُلَّاتُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ : الضَّرَائِرُ . وَأَصْلُهُ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْرَى كَأَنَّهُ عِلٌّ مِنْهَا . وَالْعِلَلُ : الشُّرْبُ بَعْدَ الشُّرْبِ . وَأَوْلَادُ الْعِلَاتِ : الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ .
أَيْ أَنَّ شَرَائِعَهُمْ مُتَعَدِّدَةٌ ، وَأَصْلُ الدِّينِ وَاحِدٌ هُوَ التَّوْحِيدُ . وَجَاءَتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ تُؤَكِّدُ الْمَعْنَى السَّابِقَ ، فَوَجَدْنَا أَنَّ الْعِبَارَةَ الَّتِي رَدَّدَهَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ تَرْحِيبًا بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ حِينَ اسْتَقْبَلُوهُ فِي السَّمَوَاتِ العلا( مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح ) البخارى
اِنْتِقَالُ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلْمٌ مِنْ مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى مَرْتَبَةِ عَيْنِ الْيَقِينِ :
وَعِلْمُ الْيَقِينِ : بِمَعْنَى انْهِ اذَا قُلْنَا انْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا مَا لَا عَيْنَ رَأَتْ وَلَا أُذُنَ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَنَحْنُ نُصَدِّقُهُ وَلَكِنَّنَا لَمْ نَرَى شَيْئًا .
وَعِنْدَمَا نَرَى مَا اخْبَرَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا عَيْنُ الْيَقِينِ أَيْ رَأَيْتَ ذَلِكَ الْمُخْبِرَ عَنْهُ بِعَيْنِكَ وَذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ سُورَةِ التَّكَاثُرِ .
أَهَمِّيَّةُ الصَّلَاةِ وَمَنْزِلَتُهَا فِي الْإِسْلَامِ :
وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي فُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبِدُونِ وَاسِطَةٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” . . . ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةَ كُلِّ يَوْمٍ ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرَتُ عَلَى مُوسَى ، فَقَالَ : بِمَا أُمِرْتَ ، قُلْتُ : أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةَ كُلِّ يَوْمٍ
: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي – وَاللَّهِ – قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ! قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى، وَأُسَلِّمُ…
فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي” [البخاري: 3598].
اَلْمَحْنُ يَعْقُبُهَا مَنْحُ
انْظُرْ إِلَى حَالِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَاتَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ ، وَقَدْ مَاتَ زَوْجُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ رَضَى اللَّهُ عَنْهَا ، وَذَهَبَ إِلَى أَهْلِ الطَّائِفِ يَدْعُوهُمْ ، فَيَسُبُّ وَيُضْرَبُ ، فَفَى هَذَا الْجَوِّ الْمَشْحُونِ بِالضُّغُوطِ وَالْمِحَنِ تَأْتِى الْمِنْحَةُ الرَّبَّانِيَّةُ لِتَعْلُوَ بِهِ عَلَى كُلِّ أَحْدَاثِ الْأَرْضِ لِيَكُونَ هُنَاكَ مَعَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَنِ وَحِينَمَا
صَبَرُ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَالِهِ كَانَتْ الرِّحْلَةُ الْمُبَارَكَةُ ، وَقَلَّ أَنْ يَتَخَلَّقَ الْإِنْسَانُ بِخُلُقِ الصَّبْرِ مَعَ اَلرَّجَاءِ إِلَّا وَجَاءَ الْفَرَجُ ، فَإِنَّ الصَّابِرِينَ يَنَالُونَ مَعِيَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَا أَعْظَمَهَا مِنْ نِعْمَةٍ ، قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } اَلْبَقَرَةُ : 153 .
إِنَّ هَذِهِ الرِّحْلَةَ الْمُبَارَكَةَ تُعَلِّمُنَا أَنَّ الْيُسْرَ مَعَ الْعُسْرِ ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ .
وَمِنْ الْمِنَحِ صَدِيقُ الْأُمَّةِوَرَفِيقُ الْحَبِيبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِنَّمَا تَعْرَفُ الرِّجَالَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ :
فَالنَّاسُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ صِنْفَانِ : صِنْفُ كَأَبَى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضَى اللَّهُ عَنْهُ ، وَصِنَّفُ رَافِضٌ مُكَذِبٌ كَمَنْ كَذَّبَ بِرِحْلَةِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْأَوْلَى بِالْعَبْدِ الْمُؤَدَّبِ أَنْ يُصَدِّقَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَى كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ .
وَالرِّجَالُ لَا يُمْكِنُ بِنَاؤُهُمْ
إِلَّا مِنْ خِلَالِ الْمَوَاقِفِ ، فَعِنْدَمَا أَخْبَرَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ بِأَمْرِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ طَفِقَ الْقَوْمُ بَيْنَ مُصَفِّقٍ وَبَيْنَ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ تَعَجُّبًا ، فَأَفْرَزَتْ هَذِهِ الرِّحْلَةُ حَقَائِقَ الرِّجَالِ : أَفْرَزَتْ رِجَالًا كَأَبَى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضَى اللَّهُ عَنْهُ حِينَ جَاءَتْهُ قُرَيْشٌ يَقُولُونَ لَهُ اُنْظُرْ مَا قَالَهُ صَاحِبُكَ إِنَّهُ يُدْعَى أَنَّهُ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَعَادَ فِى لَيْلَةٍ وَنَحْنُ نَضْرِبُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ قال: إن كان قد قال فقد صدق،
إِنِّي لِأُصَدِّقَهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ ” بِالصَّدِيقِ ” رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ مَعَ كَلَامِ وَأَوَامِرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَحَالِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إيمَانٌ وَيَقِينٌ ، وَتَصْدِيقٌ وَتَسْلِيمٍ ، وَإِنْ خَالَفَ عَقْلَهُ وَهَوَاهُ ، قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا
الدُّعَاءِ
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ آمين : آمين
وَأَقُمْ الصَّلَاةُ