شهر رجب لماذا كان محلا للإسراء والمعراج دون غيره من شهور السنة؟

بقلم فضيلة الشيخ : صلاح رمضان ( إمام وخطيب بوزارة الأوقاف )

في إطار التأمل في فلسفة الزمان والمكان في رحلة الإسراء والمعراج

فأن أبرز ما يتبادر إلى الأذهان لماذا شهر رجب؟
ولماذا لم تكن تلك الرحلة المباركة في رمضان أو ذي الحجة أو المحرم؟

في وجهة نظرنا اختيار شهر رجب لعدة أسباب من أهمها:

1- أن رجب شهر من أشهر الله الحرم، يقول تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ)[التوبة: 36]. وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم  قَالَ ” إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ، السَّنةُ اثْنَا عَشَر شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقعْدة، وَذو الْحجَّةِ، والْمُحرَّمُ، وَرجُب مُضَر الَّذِي بَيْنَ جُمادَى وَشَعْبَانَ”[متفق عليه].

2- أن رجب من الشهور الحرم كما أسلفنا وبما أن هذه الشهور قد خصت بعظائم الفرائض والأحداث، فجعل الله شهري ذي القعدة وذي الحجة للحج، وشهر الله المحرم بداية للعام وخصه بيوم عاشوراء الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، وجعل رسول الله صومه تكفيرا للذنوب، فقد جاء في صحيح مسلم: (أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: “يكفّر السّنة الماضية”، فكان لابد أن يُخصص لهذا الشهر الحرام حدث جلل كبقية الأشهر الحرم الأخرى، فكانت حادثة الإسراء والمعراج.

3- وعن اختيار شهر رجب عن بقية الشهور الحرام بل وبقية شهور العام بما فيها شعبان ورمضان يرجع – والله أعلم- إلى أن شهري ذي القعدة والحجة وهما محل الحج إلى البيت الحرام لم يكونا عطاء خاصا لنبي من الأنبياء، فقد حج إلى البيت الحرام الكثير من الأنبياء، فقد حج موسى ويونس عليهما السلام للكعبة، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: “أَيُّ وَادٍ هَذَا؟” فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: “كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ”، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: “أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟” قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ: “كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ وَهُوَ يُلَبِّي”.

وأخرج الإمام مسلم والإمام أحمد وغيرهما عَنْ حَنْظَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا”.

وعليه فحادث شهري الحج الحرام فيهما عموم تكريم لكل الأنبياء، والشهر الثالث من شهر الله المحرم كان تكريما لموسى بنجاته من فرعون وهو أبرز أنبياء بني إسرائيل وصاحب كتابهم المقدس وهو التوراة، فناسب أن يكون الشهر الرابع شهرا خاصًا لتكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بحادث فارق كبقية الشهور الحرام مع الأبرز من الأنبياء، فكان حادث الإسراء والمعراج الذي رفع النبي إلى أعلى المراتب حتى كان قاب قوسين أو أدنى.

4- كما أن حادث الإسراء حادث فرد لا يُضم إلى غيره من الأحداث لعظيم ما كان فيه من آيات وتجليات، وكذلك شهر رجب؛ شهر فرد لم يضم إلى غيره من الشهور الحرم، فكما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم :”السَّنةُ اثْنَا عَشَر شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقعْدة، وَذو الْحجَّةِ، والْمُحرَّمُ، وَرجُب مُضَر الَّذِي بَيْنَ جُمادَى وَشَعْبَانَ” [متفق عليه]. و كانت العرب تسمي رجب بـ”الفرد” لعدم ضمه إلى بقية الأشهر الحرم، فناسب أن يكون الحادث الفرد وهو الإسراء والمعراج مع الشهر الفرد وهو شهر رجب.

5- شهر رجب سمي بذلك لتعظيم العرب له في الجاهلية عن القتال فيه والترجيب هو التعظيم، ولذلك سمي أيضًا بالأصم أي لا يسمع فيه صوت سلاح ولا صوت مستغيث، وكأن الله أرد لهذا الحدث الجلل والعظيم أن يكون في شهر حرام مملؤء بالسكينة والأمن والأمان، فيكون ذلك أدعى لتقبل خبر الإسراء والمعراج بهدوء فكر وتروي في الفهم لا يشغلهم شاغل من قتال أو خوف حتى بلغ من أمرهم في هذا الشهر أن أحدهم لو لقي قاتل أبيه أو ابنه في شهر رجب لم يتعرض له، ولذلك نجد أن حادث الإسراء والمعراج هو الحادث الوحيد الذي دار بين الرسول وقريش حوارٌ هادئ حوله، فعندما أخبرهم بأنه أسري به لم يقابلوا ذلك بصراخ المكذبين وضجيج الكارهين واستهزاء المستهزئين كعهده بهم دائما ولم يدفعوا الناس عنه بل على العكس جمعوا له الناس ليسمعوا منه.. وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس بابا بابا وجانبا جانبا…إلخ. وقد يقول قائل: ولماذا لم يكن في بقية الأشهر الحرم ففيها نفس التعظيم وتحريم القتال؟ وتكون الإجابة: لأن الأشهر الحرم غير رجب مشغولة بأداء شعيرة الحج والانصراف منها، وكأن الله أراد ألا يكون هناك شاغل مهما كان يشغل قريش والعرب من خلفهم غير هذا الحادث، وكأن لسان الحال لا صوت يعلو فوق صوت إسراء النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه.

6- من أبرز معالم رحلة الإسراء والمعراج صلاة النبي بالأنبياء، والتي ظهر فيها شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعلو مقامه، يقول ابن كثير – رحمه الله تعالى ـ في معرض حديثه عن إمامة النبي صلى الله عليه وسلم  بالأنبياء:” ثم أُظْهِرَ شرفُه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له “، وتلك الصلاة هي الترجمة العملية لقوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ”[آل عمران: 81]، كما أن أخذ الميثاق من ناحية وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام من ناحية جعل هذه الأمة الإسلامية هي الأمة الشاهدة، يقول تعالى: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” [البقرة: 143]، ومن معالم هذه الشهادة وسطية هذه الأمة، وعلى ذلك كان اختيار شهر رجب وهو الشهر الوسط بين شهور السنة ليتناسب مع نتيجة من نتائج رحلة الإسراء وهي وسطية الأمة وشهادتها على بقية الأمم.
وهذا لي
س هو الملمح الوحيد في رحلة الإسراء والمعراج لترسيخ وسطية هذه الأمة، فإذا كان البراق قد حمل النبي صلىى الله عليه وسلم فوق ظهره، والبراق وسط بين البغل والحمار أو قل وسط بين الحصان والحمار فهو أقرب إلى البغل، استشف من ذلك أن من يحمل مواريث النبوة بين جنبيه لابد أن تكون دابته ومسلكه إلى ذلك وسطا، خاصة أن هناك من مثله كمثل الحمار يحمل أسفارا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *