هل يجوز الثناء على الكافر؟!
18 يناير، 2025
قضايا شرعية

بقلم: خادم الجناب النبوي الشريف
د/ محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف
هل يجوز الثناء على الكافر؟!
نعم، يجوز الثناء على الكافر، في غير أمر الكفر، وبما لا يدل على الرضا بكفره، كأن يثني عليه في صدقه، أو في أمانته، أو في نجدته، أو في مروءته، أو في عدله، أو في إتقانه لعمله، ونحو ذلك من الأمور المحمودة شرعا في المسلم وغيره، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ملك الحبشة – وكان إذ ذاك على دين النصرانية – ونَعَتَهُ بالعدل وعدم الظلم، فقال لأصحابه رضي الله عنهم: “اخرجوا إلى الحبشة؛ فإن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحدٌ!”.
وأثنى على عبد الله بن جُدْعان بالشهامة والنجدة والمروءة، حيث استضاف في داره (حِلْف الفضول)، وهو حلف تعاقدت فيه قريش والقبائل على نصرة المظلوم، فقال صلى الله عليه وسلم: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدْعان؛ حِلْفًا ما يسرُّني أن لي به حُمُرَ النَّعَم!”.
وأقرَّ السيدة عائشة رضي الله عنها على ثنائها عليه، فقد روى مسلم في [صحيحه] عنها أنها قالت: قلت يا رسول الله: “ابن جُدْعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟”. قال: “لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوما: “رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين”.
فلم يقل لها: “لا تمدحيه بذلك”، بل سكت إقرارا، ثم بيَّن أن ذلك لا ينفعه في آخرته، وإن نفعه في دنياه!
فسلك سبيل الإنصاف، وترك سبيل الإجحاف!
ومدح صلى الله عليه وسلم لَبِيدَ بن ربيعة، بشطر من بيت شعر قاله في التوحيد، وهو يومئذ على الكفر، فقال – كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -: “أصدقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ؛ كلمةُ لَبِيدِ: ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلٌ!”.
وأثنى على أمية بن أبي الصلت؛ بشعره في التوحيد والإلهيات ومكارم الأخلاق، وهو كافر، فقال – كما في الصحيحين أيضا -: “كاد شعر أمية بن أبي الصلت أن يُسْلِمَ!”.
وأثنى على عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بالخير والرشد، فقال – كما في سيرة ابن هشام – وقد رآه فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ: “إنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ؛ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا!”.
وأثنى الصحابة رضي الله عنهم على بعض الخصال الحسنة في الروم، وهم نصارى، ففي صحيح مسلم، من حديث المستورد القرشي، عن عمرو بن العاص، قال -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول: “تقوم الساعة والرومُ أكثر الناس”. فقال له عمرو: “أَبْصِرْ ما تقول!”.
قال: “أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
قال: “لئن قلتَ ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعا: إنهم لأحلمُ الناس عند فتنة، وأسرعُهم إفاقةً بعد مصيبة، وأوشكُهم كَرَّةً بعد فَرَّةٍ، وخيرُهم لِمسكينٍ ويتيمٍ وضعيفٍ!
وخامسة حسنة، وجميلة: وأمنعُهم من ظلم الملوك”.
ولكن يُشترط أن يكون مدح الكافر لموجِب شرعي، ولداعٍ معتبر!
ومن الموجبات الشرعية، والدواعي المعتبرة لمدحه، والثناء عليه، أن يكون مدحه على سبيل إنصافه، ودفع تهمة ألصقت به زوراً؛ ومن ذلك قوله تعالى: “ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك؛ إلا ما دمت عليه قائما”.
ومن الموجبات والدواعي أيضاً؛ أن يكون مدحه على سبيل بث روح الاجتهاد في نفوس المسلمين، ومحاولة منافستهم بما نحن أولى به منهم لإسلامنا، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه : “عجبتُ من جلَد الكافر، وعجز الثقة”. يقولها تحفيزا للثقات!
ومن الموجبات أيضاً؛ أن يكون مدحه على سبيل الشكر والمكافأة بالمعروف، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر: “لو كان المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حيًّا، ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتْنَى لتركتُهم له”. رواه البخاري عن جُبير بن مطعِم.
والمطعِم هو ذلك الرجل العربي النبيل الشهم صاحب النجدة والمروؤة الذي أجار المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحماه من بطش المشركين، حين رجوعه من الطائف، رغم كونه مشركا، فحشد له أولاده، ومعهم أسلحتهم، حتى دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، وكان أيضا ممن سعى في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة التي وضعتها قريش، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ممن يجحد المعروف، أو ينساه لصاحبه، وإن كان كافرا!
وقد قال ابن تيمية في كتابه [الصارم المسلول] – وذكر حديث المطعم هذا -: “كان صلى الله عليه وسلم يكافئ المحسن إليه بإحسانه، وإن كان كافرا”.
ومن الموجبات الشرعية لمدح الكافر والثناء عليه، في غير أمر الكفر؛ أن يكون مدحه على سبيل تطييب قلوب أبنائه وأحبائه، وتأليفهم على الإسلام.
ومن ذلك ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال لابنة حاتم الطائي؛ لمَّا سألَتْهُ أن يخلِّي سبيلها، وقد عدَّدَتْ بعض مناقب أبيها: “خَلُّوا عنها؛ فإنَّ أباها كان يحب مكارم الأخلاق، واللهُ – تعالى – يحب مكارم الأخلاق!”.
وأعجبُ من ذلك وأغرب؛ مخاطبتُه صلى الله عليه وسلم لملوك ورؤساء العالَم بالتعظيم، وهم يومئذ على غير دين الإسلام!
فخاطب هرقل بعظيم الروم، وخاطب كسرى بعظيم فارس، وخاطب المقوقس بعظيم القبط، وخاطب النجاشي بملك الحبشة، ولم يحقرهم، أو ينزع عنهم ألقابا ألبسهم الله إياها، مراعاة للعرف السائد في الخطاب الدبلوماسي!
واليوم إذا وصفتَ مسلما بالعظمة – بسبب بعض أعماله العظيمة – بادرك أحد هؤلاء الأنطاع المتفيهقين بقوله: “استغفر الله يا أخي، العظمة لله وحده!”.
إن هذا الدين العظيم؛ ظُلِمَ كثيرا من بعض أتباعه، حين صدَّرُوه وصوَّرُوه للناس على أنه دين غشيمٌ، قاسٍ، لا يحسن التمييز بين الأحوال، وأن العداوة الدينية لا بد أن تنقلب إلى عداوة دنيوية، وأنه لا يحسن بأتباعه إلا أن يعيشوا في صراع دائم مع الآخر، ولو من غير داعٍ، متناسين أو متجاهلين المبادئ الإنسانية العظيمة التي جاء بها هذا الدين، والتي يشير إليها نحو قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”، وقوله تعالى: “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى”، وقوله تعالى: “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”، وقوله تعالى: “وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ”، وقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، وقوله تعالى: “لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ”، وقوله تعالى: ” لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”.
إن أمر الخواتيم بيد العليم الحكيم، ونحن لا ندري بِمَ يُختم لنا، فكيف بغيرنا؟!
ورحم الله من قال:
ولا تَرَيَنْ في الأرض دونَك مسلمًا
ولا كافرًا حتى تُغَيَّبَ في القبرِ!
فإن خِتامَ الأمرِ عنك مُغَيَّبٌ
ومن ليس ذا كفرٍ يخافُ من المكرِ!
وقال شيخنا الخطيب رضي الله عنه في [نُقَاية التصوف]:
ولا تَرَى أقلَّ منك أحدا
حتى تموتَ مؤمنًا موحِّدا!
والحاصل: أنه لا ينبغي لمؤمن أن يفخر بإيمانه على كافر؛ حتى يضمن لنفسه أنه يموت على الإيمان، ثم يرى نفسه في الجنة، وأنَّى له ذلك؟!
وبالله التوفيق.