خطبة بعنوان ( وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ ) لفضيلة الشيخ احمد عزت

«وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ»

إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن

خطبة الجمعة ١٠ من رجب لعام ١٤٤٦هـ. الموافق ١٠ من يناير لعام ٢٠٢٥

الموضوع

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد

فإن ديننا الإسلامي يدع إلى الأخلاق الحسنة، ويجعلها أساس القبول للأعمال عند الله عز وجل؛ فلا قبول لعملٍ -مهما ظهر صلاحه- دون سناد من خلقٍ حسن،

ولذا تجد العمل الصالح رديف الإيمان في القرآن الكريم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات …) وفى سنة نبينا ﷺ (والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) ويخلُق -يذبل- الإيمان ويهترئ بسوء سلوك صاحبه، فلا تك مدهوشًا من أقوامٍ عكفوا لا تفوتهم جماعة الفجر، والصف الأول كل صلاة وصيام النوافل، وقيام الليل، وقراءة القرآن فى المساجد، ما لم تعلم حالهم عند ابتلائهم فى سلوكهم،

إن الذين يظنون أن العبادات بدون خلق حسن ترفع قدر العبد عند ربه عز وجل هم -في الحقيقة-واهمون، فإنه حين توزن الأعمال بين يدى الله يكون حسن الخلق أثقلها عند الله عز وجل، فعن أبى الدرداء -رضى الله عنه- أن النبي -ﷺ- قال: “ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذئ” (رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح).

وزاد في رواية له “وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة”.

فالأخلاق هي رسالة الإسلام وهي روحه وريحانه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: “إن المؤمن ليبلغ بحُسن خلقه درجة الصائم القائم” رواه أبو داود وأحمد

أي أنه جعل حسن الخلق كأجر العبادات الأساسية.

وقد تكون عبادة المسلم قليلة ولكن تثقُل بالخلق الحسن فيدرك بها منازل ودرجات القائمين الصائمين.

ألم يُسأل النبي -ﷺ-عن امرأةٍ تقوم الليل وتصوم النهار لكنها تؤذى جيرانها بلسانها فقال: “هي في النار”

وهذه عبادات يُخضع لها، قيام ليل وصيام نهار، لو أن القبول عند الله مرجعه إلى العبادات وحدها لكانت صاحبتها في أعلى عليين، وفى منزلة تالية للأنبياء والصديقين، لكن لما كان القبول متوقفًا على شرط آخر وهو الخلق الحسن، كانت هذه المرأة في النار.

والعكس صحيح فلما سُئل -ﷺ-عن امرأةٍ قليلة العبادة، ولكنها تتصدق بالقليل فقال -ﷺ-: “هي في الجنة”

فلما كان المرجع للخلق الحسن كانت هذه المرأة صاحبةُ العبادات القليلة التي تذكر من قلة صيامها وصلاتها لكنها تحسن إلى جيرانها في الجنة؛ لهذا نرى النبي -ﷺ-في صلاته بالليل يدعوا ربه قائلًا: “اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عنى سيئها لا يصرف عنى سيئها إلا أنت”. رواه مسلم عن علي -رضى الله عنه.

فالأخلاق هي عنوان الدين، و “الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين”. بهذه الكلمات لخص لنا ابن القيم الدين الإسلامي كله، فهو دين يقوم على الخلق الحسن، وكلما ازداد المرء من الأخلاق الحسنة كان أقرب إلى حد الكمال في دينه، ولا خير في تدين مغشوش لا يقوم على خلقٍ حسنٍ، فالتدين المغشوش -كما يقول الشيخ الغزالي رحمه الله- أنكى وأخطر على الأمة من الإلحاد الصارخ الظاهر.

العبادات مع الله علاقات مالم تأت ثمارها معاملة حسنة وسلوكًا قويمًا مع الخلق فعليها السلام، ولذا المحك عند الابتلاء والاختبار،

بعض العابدين إن ابتلوا بما فى جيوبهم لمساعدة فقير أو نجدة ملهوف أو إقراض غيرهم أو شهادة حق فى قضية ما كانوا أول المتباطئين المتخاذلين الهاربين، يعيشون فاصلًا بين إيمانهم وسلوكهم فلا تأخذك الدهشة منهم، فالعبادات لا تكلفهم مالا وما يكلف منها كالعمرة والحج رغم قدرتهم عليه يرجئونه وقد يموتون ولا يأتونه، يثنون أنفسهم عن كل سلوك فيه خير لغيرهم يكلفهم مالا أو جهدًا أو يضعهم فى محك الأخذ والرد مع الناس، فأهل النفاق فى مدينة رسول الله -ﷺ- كانوا يصلون معه فى مسجده وحال ابتلوا بالخروج معه فى أحد انخذلوا من جيشه، وفي غزوة تبوك قعدوا عن الخروج.

** إن الخلق الحسن هو أصل كل خير، وهو مفتاح القبول عند الله -عز وجل- وأقرب الناس من رسول الله -ﷺ- وأحبهم إليه هم أصحاب الخلق الحسن إنه ليحظى بالقرب من رسول الله -ﷺ-، وإن أبغض الناس إليه -ﷺ- هم أصحاب الأخلاق السيئة.

قال رسول الله -ﷺ-: “إن من أحبكم إلىّ وأقربكم منى مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا” (رواه الترمذي وقال: حديث حسن ).

وفى رواية للطبراني قال -ﷺ- “إن أحبَكم إلىّ أحاسنكم أخلاقًا الموطّئون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلى المشّاءون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الملتمسون للبرءاء العيب”

ولقد حفلت الشريعة الإسلامية بدستورٍ عظيمٍ كامل لبناء صرح الأخلاق، فما من جانبٍ من جوانب الحياة إلا وتجد العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تأخذ بعضد بعضها البعض، تحديثًا ترغيبًا ترهيبًا ومعالجةً، ولا غرو فتهذيب النفوس وبناء المجتمع الفاضل الذي يقوم على الأخوة الإنسانية والفضيلة هو أحد مبادئ ديننا الحنيف.

فالإسلام حينما يأمر بأفعال الخير واجتناب المعاصي والشرور فإنما هو يخاطب الوازع الديني يخاطب الضمير الحي الكامن الكائن بين جوانح الإنسان السويّ

يخاطب فيه مراقبة الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرةٍ في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.

** ومهمة نبينا محمَّد -ﷺ- هي إتمام مكارِم الأخلاق فلقد لخص النبي -ﷺ- الغرض من بعثته فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله -ﷺ-: (إنَّما بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق) رواه البيهقي، أخرجه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد)، وهذا الحديث يبين لنا أمرين:

الأمر الأول: أن الهدف الأساسي لدعوة النبي -ﷺ- هو إصلاح الأخلاق.

الأمر الثاني: أن العرب الذين بعث فيهم النبي -ﷺ- كانوا على أخلاق حسنة لكن لم تبلغ حد الكمال، ولقد جاء النبي -ﷺ- ليصل بهم إلى حد الكمال الأخلاقي، وهذا المعنى نفهمه من قوله -ﷺ- بعثت لأتمم، فهو -ﷺ- وجد عند القوم أخلاقًا حسنة فهو لم يبعث إلى قوم ذهبت أخلاقهم ولم يبق عندهم رصيد من الخلق الحسن، بل كانوا على أخلاق حسنة لكنها لم تصل إلى الكمال، لهذا بعث الله -عز وجل- رسوله -ﷺ- ليتمم ما نقص عن الكمال.

** حسن الخلق وسيلة من وسائل دخول الجنة.

فقد سُئل الرسول -ﷺ- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: (تقوى اللهِ وحُسن الخُلق) [الترغيب والترهيب]

بل إن النبي -ﷺ- ليخبر أن صاحب الخلق الحسن في أعلى الدرجات يوم القيامة فيقول -ﷺ-: “أنا زعيم -ضامن- ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه” (رواه أبو داود).

والمتدبر لهذا الحديث يجد أنه جعل الدرجات الثلاث في الجنة مبنية على حسن الخلق، فالدرجة الأولى وهى ربض الجنة -فنائها وحدائقها- لمن تخلى عن خلقٍ سيءٍ وهو المراء والجدال بلا فائدة،

والدرجةَ الوُسطى في الجنة لمن تخلى عن الكذب -حتى وإن كان يمزح ويضحك- وهو خلق سيء، من تركه كان موعودًا ببيت في وسط الجنة،

والدرجة العليا لمن حسن خلقه، فالدرجات الثلاث كما ترون بنيت على التخلي والتحلي، التخلي عن الخلق السيء، والتحلي بالخلق الحسن، وصدق ابن القيم حينما قال: “ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة”

وها هو أبو الدرداء تحدِّث عنه زوجته أم الدرداء فتقول: بات أبو الدرداء -رضى الله عنه- الليلة يصلى فجعل يبكى ويقول: “اللهم حسَّنت خَلقي فأحسن خلقي” حتى أصبح فقلت: يا أبا الدرداء ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق، قال: “يا أم الدرداء إن العبد المسلم يحسُن خلقه حتى يُدخِله حسن خلقه الجنة، ويسوء خلقه حتى يُدخله سوء خلقه النار” (الزهد للإمام أحمد).

أهمية الأخلاق

لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية الأخلاق على مستوى الفرد أو الجماعة أو المجتمع، فعلى صعيد الفرد

تعمل على صقل شخصية الفرد:

١- تعتبر الأخلاق إحدى مقومات شخصية المسلم؛ فهي تزرع في نفس صاحبها الرحمة والصدق والعدل والأمانة والحياء والعفة والتعاون والتكافل والإخلاص، والتواضع وغيرها من الأخلاق الحميدة، فالأخلاق الحسنة هي اللبنة الأساسية للفلاح والنجاح، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، ويقول تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)،[الأعلى] والتزكية تعني تهذيب النفس باطنًا وظاهرًا في حركاته وسكناته.

٢- تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة

إن سعادة الإنسان تكون على قدر امتثال المسلم بتعاليم الإسلام في سلوكه وأخلاقه، فالسعادة تكون في الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح؛ حيث إن الالتزام بقواعد الأخلاق الإسلامية كفيل بتحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة للفرد والجماعة، فأسس الأخلاق الإسلامية لم تهمل أي جانب من جوانب الحياة لتحقيق سعادة الفرد الذي يمارس فضائل الأخلاق ويجتنب رذائلها، كما أنها تعمل على تحقيق سعادة المجتمع من خلال تقوية أواصر المحبة والتعاون التي تنتج بين أفراد المجتمع نتيجة التعامل الخلوق فيما بينهم.

كما أن الإسلام لم يعد الخلق سلوكًا فقط، بل عده عبادة يؤجر عليها الإنسان، ومجالًا للتنافس بين العباد،

٣- مكارم الأخلاق وبناء المجتمع

وللأخلاق دور كبير في تغير الواقع الحالي إلى العادات الجيدة؛ لذلك قال الرسول ﷺ: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. رواه البيهقي

فبهذه الكلمات حدد الرسول ﷺ الغاية من بعثته أنه يريد أن يتمم مكارم الأخلاق في نفوس أمته والناس أجمعين ويريد للبشرية أن تتعامل بقانون الخلق الحسن الذي ليس فوقه قانون.

٣- بث الطمأنينة في الأفراد والمجتمعات

إن حسن الأخلاق يبعث الطمأنينة في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع، والثبات على الأخلاق مطلوب؛ لأن الأمور بخواتيمها وبدون الاستقامة والثبات على الحق تفوت الثمرة، ولا يصل المسلم إلى الغاية، وكلما انتشرت الأخلاق في هذه الحياة انتشر الخير والأمن والأمان الفردي والاجتماعي، وتنتشر أيضًا الثقة المتبادلة والألفة والمحبة بين الناس، وكلما غابت الأخلاق عن هذه الحياة انتشر الشرور وزادت العداوة والبغضاء والنفور والتناحر من أجل المناصب، ومن أجل المادة والشهوات، والشرور سبب التعاسة والشقاء في حياة الفرد والجماعة

٤- التفاهم بين الناس وتعميق الروابط المتينة

حيث إن الأخلاق الحسنة تقوي العلاقات بين الأفراد وتزيد الثقة بينهم، فيصبح الإنسان واثقًا بأخيه وبأنه لن يغشه ولن يغتابه ولن يكذب عليه، فيطمئن إليه وتقوى علاقته به، كما ويصبح المجتمع بالأخلاق متمتعًا بالأمانة والنزاهة والإخلاص، فتقوى أواصر المحبة والمودة بين أفراده.

٥- نشر المودة بين الناس

إن انتشار الأخلاق الحسنة سبب من أسباب نشر المودة وإنهاء العداوة بين الناس، قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)،[فصلت]

٦- ويفوز الإنسان بقلب أخيه بحس خلقه، قال النبي -ﷺ-: (إنكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم، ولكن يَسَعهم منكم بَسْطُ الوجهِ، وحُسْنُ الخُلُقِ). [رواه البزار في الأحكام الشرعية الكبرى].

٧- تعد الأساس الذي تقوم عليه الأمم

تعتبر الأخلاق وسيلة مهمة للنهوض بالأمة، فالانهيار الأخلاقي وظهور الأخلاق المذمومة كالظلم ونقض العهود والتناحر من أجل السلطة، هو السبب في تراجع الأمم وسقوطها، وعلى العكس فإن انتشار الأخلاق الحميدة في المجتمع يؤدي إلى خدمة الأمة والتعاون وتحقيق المساواة والعدالة الشاملة وتنفيذ العهود، وبالتالي يسود الأمن والاستقرار في المجتمع بأكمله، الأمر الذي يقود في المحصلة إلى تقدم الأمم ونجاحها.

٨- الأخلاق هي جزء أساسي وجوهري في حياة الشعوب،

والأخلاق وصاحِب الخُلُق ليس هو مَن يترك مساوئ الأخلاق فقط، بل مَن يُزكِّي بدنه ونفسَه بالقيام بمحاسنِ الأخلاق، وهذه مرتبةٌ لا يصِلها إلا قليلٌ مِن الناس ممن اصطفاهم الله لها عن أبي سعيدٍ الخُدري، قال: قال النبيُّ -ﷺ- لأشج عبدِ القيس: (إنَّ فيك لخصلتَين يحبُّهما الله: الحلم والأناة) [رواه البخاري في الأدَب المفرد برقم (٥٨٥)]

ولو أنَّنا نظرْنا إلى ما يترتَّب على التزمْنا بالأخلاق أو ارتكابنا لمساوئ الأخلاق، لما كانتْ عندنا هذه الأزمة، فالرسول -ﷺ- يقول في حديث عمرو بن شُعَيب عن أبيه عن جَدِّه: (ألاَ أُخبركم بأحبِّكم إلي وأقربِكم منِّي مجلسًا يومَ القيامة؟)، فسكت القوم، فأعادها مرَّتين أو ثلاثًا، قال القوم: نعَمْ يا رسولَ الله، قال: (أحْسَنكم خُلقًا) رواه البخاري في “الأدب المفرد” برقم (٢٧٢)، وبمفهوم المخالَفة أنَّ مَن ساء خُلُقه فهو أبعدُ الناس مجلسًا يوم القيامة، ولا يكون أبعدَ عن مجلس النبيِّ -ﷺ- إلا مَن غضب الله عليه، وأدخله النار – والعياذ بالله!

٩- أنها أساس بقاء الأمم:

فالأخلاق هي المؤشِّر على استمرار أمَّة ما أو انهيارها؛ فالأمة التي تنهار أخلاقُها يوشك أن ينهارَ كيانُها، كما قال شوقي:

وإذا أُصيب القومُ في أخلاقِهم

فأقِمْ عليهم مأتَمًا وعويلا

ويدلُّ على هذه القضية قولُه تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: ١٦].

١٠- أنها من أسبابِ المودة، وإنهاء العداوة:

يقول الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: ٣٤]، والواقع يشهد بذلك، فكم من عداوةٍ انتهت لحُسن الخُلق؛ كعداوة عمرَ وعكرمة، بل عداوة قريش له -ﷺ-، ومن هنا قال: «إنكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم ، ولكن يَسَعهم منكم بَسْطُ الوجهِ ، وحُسْنُ الخُلُقِ» (صحيح الترغيب)، يقول أبو حاتم رحمه الله: “الواجب على العاقل أن يتحبَّب إلى الناس بلزوم حُسن الخُلق، وتَرْكِ سوء الخُلق؛ لأن الخُلق الحسَن يُذيب الخطايا كما تذيب الشمسُ الجليد، وإن الخُلق السيِّئ لَيُفسد العمل، كما يفسد الخلُّ العسلَ”.

وقد ذكر اللهُ أن للإنسان عورتينِ؛ عورة الجسم، وعورة النفس، ولكل منهما ستر؛ فستر الأولى بالملابس، وستر الثانية بالخُلق، وقد أمر الله بالسترين، ونبَّه أن الستر المعنوي أهمُّ من الستر الحسي فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: ٢٦] فطهارةُ الباطن أعظمُ من طهارة الظاهر.

انتشار المحبة والسلام

من أهم آثار الخلق الحسن أنه يساهم في نشر المحبة والألفة والسلام بين الناس، لأنّه يجبر صاحبها على احترام الآخرين وعدم المساس بحقوقهم وأعراضهم، وكما أنّ انتشار المحبة والسلام نتيجة أساسية للتحلّي بالأخلاق التي يُساهم في نشر العدل وبث الطمأنينة، والتخلص من كل ما يُسبب الأذى للناس، وهي أكبر رادع للإنسان كي يكون صالحًا يدعو للخير والإصلاح، وينهى عن المنكر والفحشاء والبذاءة، سواء بذاءة الأقوال أم بذاءة الأفعال، لهذا فإنّ الأخلاق تحمي النسيج الاجتماعي وتعزز تطوّره نحو الأفضل.

الأخلاق الإسلامية صالحة لكل إنسان ولكل زمان ومكان مع اتصافها بالسهولة واليسر ورفع الحرج فيقول الله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ٧٨﴾ [الحج:٧٨]،

ومن أعظم الأخلاق الإسلامية التي تساهم في بناء المجتمع وإشاعة السلام والأمن الاجتماعي بين أفراده خلق السماحة

أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.

أيها الإخوة المؤمنين

لقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنّنى فيه بملائكته وثلّث فيهِ بكم فقال عَزَّ قَائِلًا عَلِيمًا: (إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: ٥٦].

فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، وبعد أيها الإخوة المؤمنين

تعويد الأطفال على حسن الخلق

يقول الغزالي: “إن الطفل حين يذهب إلى الكُتَّاب يتعلم القرآن وأحاديث الأخيار، وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين، ويحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع ؛ فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد ›› [إحياء علوم الدين ٣ /٧٩].

وأكد الغزالي على أهمية تعويد الطفل الآداب والعادات الحميدة؛ فمن ذلك أن يعود التواضع والإكرام لكل من عاشره، والتلطف فى الكلام معهم. وينبغى ألا يبصق فى مجلسه، ولا بتمخط ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يستدبر غيره، ولا يضع رجلا على رجل، ويعلم كيفية الجلوس، ويمنع كثرة الكلام، ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة، وأنه فعل أبناء اللئام، ويمنع اليمين رأسا، صادقا أو كاذبا، ويعود ألا يتكلم إلا صوابا، وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره، ممن هو أكبر منه سنًا، وأن يقوم لمن فوقه، ويوسع له المكان، ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن السب ومن مخالطة من يجرى على لسانه ذلك ، فإنه يسرى لا محالة من القرناء السوء، وأصل تأديب الصبيان، الحفظ من القرناء السوء.

ولم تكن هذه التوجيهات الخلقية نظرية، بل كانت تأخذ الطابع العملي ؛ حيث كان المؤدب [معلم ينتدبه الأغنياء والخاصة، لتعليم أطفالهم فى بيوتهم، بدلا من إرسالهم إلى الكتاتيب] يقوم بتأديب الأطفال وتربيتهم التربية الخلقية الصالحة، وتعويدهم العادات الخلقية والسلوك الخلقي الحميد، وتعليمهم ‹‹ كيفية احترام الناس، ومراعاة الذوق والأدب طبقا للعرف الجاري، وأن يلقي السلام على من يدخل عليهم أو يمر بهم من الناس، ويأمرهم ببر الوالدين، والانقياد لأمرهما بالسمع والطاعة، والسلام عليهما وتقبيل أيديهما عند الدخول إليهما، ويضربهم على إساءة الأدب والفحش من الكلام، وغير ذلك من الأفعال الخارجة عن قانون الشرع›› [ابن الأخوة: معالم القربة في أحكام الحسبة، ص٢٦١] إلى غير ذلك من التوجيهات الخلقية والتطبيقات العملية، التي تعود الناشئين العادات الخلقية والسلوك الخلقي الحميد، وهو ما تفتقر إليه مدارسنا وجامعاتنا في عصرنا الحالي. وهكذا ‹‹لم يقف التوجيه الخلقي للتربية الإسلامية عند مستوى النظرية؛ فقد قرنت المعرفة بالفضيلة وأكدت معيار التطبيق والممارسة. ومن هنا تعددت أساليب التطبيق في التربية الخلقية الإسلامية، فشملت تكوين العادات السلوكية السليمة والموعظة الحسنة والممارسة المستمرة وخلق المواقف الملائمة لتطبيق المفاهيم الأخلاقية في مجالات الحياة المختلفة.

وبهذا يتربى الفرد المسلم على المبادئ الخلقية الإسلامية، علما وعملا، ويتكون لديه الاستعداد الخلقي عن طريق التربية بالعلم والتجربة، فيتعود على تنفيذ الخير ويصير عنده عادة وخلقا وسلوكا، ‹‹ يتفاعل فيه الضمير والفكر والعاطفة والإرادة والتنفيذ والعادة؛ فكل هذه تتحد فتكون وحدة سلوكية، أخلاقية، يعيشها في واقع الحياة اليومية›› [على عبد الحليم محمود: المسجد وأثره في المجتمع الإسلامي، ص١٤].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *