فضل الأشهر الحرم وشهر رجب
6 يناير، 2025
منبر الدعاة

بقلم الدكتور / محمد جاد قحيف
من علماء الأزهر والأوقاف
فضل الأشهر الحرم وشهر رجب
الحمدُ للهِ مدبِر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملكِ القدُّوس السلام، المُتفرِّدِ بالعظمةِ والبقاءِ والدَّوام، المُتَنزِّهِ عن النقائصِ ومشابهَةِ الأنام، يَرَى ما في داخلِ العروقِ وبواطنِ العظام، ويسمع خَفِيَّ الصوتِ ولطيفَ الكلام..
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، إِلهٌ رحيمٌ كثيرُ الإِنعَام، ورَبٌ قديرٌ شديدُ الانتقام، قدَّر الأمورَ فأجْراها على أحسنِ نظام، وشَرَع الشرائعَ فأحْكمَها أيَّما إحْكام، بقدرته تهبُّ الرياحُ ويسير الْغمام، وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالِي والأيَّام، أحمدُهُ على جليلِ الصفاتِ وجميل الإِنعام، وأشكرُه شكرَ منْ طلب المزيدَ وَرَام، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه أفضَلُ الأنام، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ السابق إلى الإِسلام، وعلى عمَرَ الَّذِي إذا رآه الشيطانُ هَام، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ بمالِه جيشَ العُسْرةِ وأقام، وعلى عليٍّ الْبَحْرِ الخِضَمِّ والأسَدِ الضِّرْغَام، وعلى سائر آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإِحسانٍ على الدوام، وسلَّم تسليماً.
وبعد : تمر الشهور والأيام والله عز وجل يفضل بعضها على بعض وفق إرادته وحكمته ..
قال تعالى: ” وربك يخلق ما يشاء ويختار ” ، والاختيار هو الاجتباء والاصطفاء الدال على ربوبيته ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته .
ومن اختياره وتفضيله اختياره بعض الأيام والشهور وتفضيلها على بعض ، وقد اختار الله من بين الشهور أربعة حُرما ..
قال تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ }التوبة36 . وهي مقدرة بسير القمر وطلوعه ومنازله ، لا بسير الشمس وانتقالها كما في السنة الميلادية ..
والأشهر الحرم وردت في الآية مبهمة ولم تحدد أسماؤها وجاءت السُنة بذكرها : فعن أبي بكرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع وقال في خطبته : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا : أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الَّذي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».(أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ)..
وإن للأشهر الحرم مكانةً عظيمة ومنها شهر رجب ؛ لأنه أحد الأشهر التي نزل فيها قوله تعالى : ” يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ” .
أي لا تحلوا محرماته التي أمركم الله بتعظيمها ونهاكم عن ارتكابها فالنهي يشمل فعل القبيح ويشمل اعتقاده .
ويُسَمَّى شُهْرُ رَجَبَ “رَجَبَ الْفَرْدَ” ، والأشهر الحرم الثلاثة السرد ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ شهر رجب مُنْفَرِدٌ عَنِ الشُّهُورِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّ ذُوالْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالمُحَرَّمَ تَأْتِي تِبَاعًا وَتَاتي مُتَوَالِيَةً بَعْضُهَا وَرَاءَ بَعْضٍ، وَلَكِنَّ رَجَبَ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسَةِ شُهُورٍ ..(متفق عليه)..
العنصر الأول : فضل شَهْر رَجَبَ
يعد شهر رجب من الأشهر الحرام ، ومن أفضل شهور العام ، ويُسَمَّى شَهْرُ رَجَبَ “رَجَبَ مُضَرَ”، وَإِنَّمَا أُضِيفَ الشَّهْرُ إِلَى مُضَرَ؛ لِأَنَّ قَبِيلَةَ مُضَرَ كَانَتْ تُعَظِّمُ هَذَا الشَّهْرَ وَتَصُون حُرْمَتَهُ، فَكَأَنَّهَا اخْتُصَّتْ بِهَذَا الشَّهْرِ، لِأَنَّهَا تُعَظِّمُهُ تَعْظِيمًا شَدِيدًا، وَتَزِيدُ فِي تَعْظِيمِهِ وَاحْتِرَامِه أَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُ الْآخَرُونَ، فَلَا تُغَيِّر هَذَا الشَّهْرَ عَنْ مَوْعِدِهِ، بَلْ تُوْقِعُهُ فِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ بَاقِي العرب في الجاهلية الَّذِينَ كَانُوا يُغَيِّرُونَ وَيُبَدِّلُونَ فِي الشُّهُورِ بِحَسْبِ حَالَةِ الْحَرْبِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ النسيء الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ التوبة/٣٧ .
و كانت تزيد في تعظيمه واحترامه فنسب إليهم لذلك ..
ولما كانت الأشهر يقع فيها في الجاهلية نوع من التبديل والتأخير فبيّن النبي -صلوات ربي وسلامه عليه- أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وأن هذه الأشهر هي في مواعيدها ثابتة غير نسيئة ولا مؤجلة، بل في مواعيدها ومواقيتها، فرجب هو رجب، ورمضان هو رمضان، والأشهر الحرم كما هي.
ومن اسمه يتبين منزلته وفضله “رجب : الراء والجيم والباء أصلٌ يدل على دعم شيء بشيء وتقويته … ومن هذا الباب : رجبت الشيء أي عظّمته … فسمي رجبا لأنهم كانوا يعظّمونه وقد عظمته الشريعة أيضا ..أ.هـ.
(معجم مقاييس اللغة).
ومن هنا فشَهْرُ رَجَبَ ” مِنَ التَّرْجِيبِ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَلَعَلَّ السِّرَ فِي هِذِهِ التَّسْمِيَةِ هُوَ مَا كَانُوا يَخُصُّونُ بِهِ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ تَعْظِيمٍ وَتَوْقِيرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ..
شَهْرُ رَجَبَ هو الشهر السابع في السنة الهجرية أي وسط السنة الهجرية، وقته الحقيقي بين جمادى وشعبان، فكان أهل الجاهلية لحرصهم على تعظيم هذه الأشهر الحرم لا يريدون أن يرتكبوا سفك الدم فيها، ولا يريدون إيقاع القتال فيها، فيعمدون إلى النسيء ، وهو التأجيل والتأخير- فيؤجلوا الأشهر الحرم ويقدموا شهر صفر ؛ حتى يحلون ما حرم الله من القتال في هذه الأشهر الحرم ..
وقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر رجب مُنصّل الأسنّة كما جاء عن أبي رجاء العطاردي قال : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة ( كوم من تراب ) ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا مُنصّل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه في شهر رجب . [رواه الإمام البخاري]..
♦♦العنصر الثاني♦♦.
التأكيد على أهمية الطاعة والنهي عن المعصية في الأشهر الحرم..
إن فعل المعاصي والذنوب في الأشهر الحرم له حرمة كبيرة ، كما أن الطاعات لها فضل كبير ، وشهر رجب من أهم الأشهر الحرم التي قال الله –عز وجل-فيها : (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)، (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ): ظلم النفس بالوقوع فيما لا يرضي الله –عز وجل-، بالتجرؤ على معصية الكبير المتعال، وظلم النفس بالتعدي على حقوق عباد الله ظلم ..
” فيهن ” أي في هذه الأشهر المحرمة . والضمير في الآية عائد إلى هذه الأربعة الأشهر على ما قرره الإمام الطبري – رحمه الله –
فَالذَّنْبُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا نَزِيدُ عَلَى مَا شَرَّعَ اللهُ لَنَا وَلَا نُنْقِصْ. وَشَهْرُ رَجَبَ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ تَخْصِيصُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ سوى أنه من الأشهر الحرم. وإِنَّ الْوَاجِبَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كغيرها من الأشهر: تَرْكُ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهِنَّ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَجَنُّبِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالِانْكِبَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعِبَادَةِ اللهِ. بِدُونِ ذِكْرِ فَضِيلَةٍ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ بِدُونِ دَلِيلٍ، فَعِبَادَةُ اللهِ -تَعَالَى- فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَتَزِيدُ فِي مَا خَصَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ عَنْ غَيْرِهَا حَيْثُ اخْتُصَّتْ بَعْضُ الشُّهُورِ بِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ، كَصِيَامٍ مُعَيَّنٍ وَصَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ ذِكْرٍ مُعَيَّنٍ.
وبمجرد رؤية هلال شهر رجب تفرح قلوب عباد الله ؛ لأنه يبشّر باقتراب شهرٍ حبيبٍ على القلوب، ألا وهو شهر رمضان المبارك؛ فلذلك هو شهر مفضل مكرم ومن الأشهر الحُرُم المعظّمة عند الله حرمة وفضلا ..
ومن نعم الله –عز وجل- ومنته وكرمه ما يفتح الله –عزّ وجل- على عباده من مواسم الخيرات، تلك الأيام المباركات التي يمن الله بها -جل وعلا- على عباده، بأشهر مباركات فيها يأتي في خاتمتها شهر رمضان المبارك التي كتب الله فيه الصيام ، وهو من أهم فرائض الله، وركن من أركان الدين ..
شهر رجب مفتاح أشهر الخير والبركة ..
تحت هذا العنوان قال أبو بكر الوراق البلخي: شهر رجب شهر للزرع وشعبان شهر السقي للزرع ورمضان شهر حصاد الزرع وعنه قال: مثل شهر رجب مثل الريح ومثل شعبان مثل الغيم ومثل رمضان مثل القطر وقال بعضهم: السنة مثل الشجرة وشهر رجب أيام توريقها وشعبان أيام تفريعها ورمضان أيام قطفها والمؤمنون قطافها ..
جدير بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر وبمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر ..
بَيِّضْ صَحيِفَتَكَ السَّوْدَاءَ فِي رَجَبِ***بِصَالِحِ الْعَمَلِ الُمنْجِي مِنَ اللَّهَبِ..
شَهْـرٌ حَرَامٌ أَتَى مِنْ أَشْهُرٍ حُرُمِ***إِذَا دَعَا اللهَ دَاعٍ فِيـهِ لَمْ يَـخِبِ
طُـوبَى لِعَبْدٍ زَكَى فِيـهِ لَهُ عَمَلٌ ***فَكَفَّ فِيهِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالرِّيَـبِ
يا عبدُ أَقْبِلْ مُنِيباً وَاغْتَنِمْ رَجَبًا * فإنّ عَفْوِيَ عمّن تاب قد وَجَبَا
(لطائف المعارف)..
ومن هنا ينبغي مراعاة حرمة هذه الأشهر لما خصها الله به من المنزلة والحذر من الوقوع في المعاصي والآثام تقديرا لما لها من حرمة ؛ ولأن المعاصي والطاعات تعظم بسبب شرف المكان فهي كذلك تعظم بسبب شرف الزمان ..
كما يستحب الإكثار من الصيام وقراءة القرآن الكريم والإقبال على ما يُرضي الله –عز وجل-، رغبة في ثواب الله وطمعًا في كرم الله، فالله -جل وعلا- إذا غلّظ العقوبة ضاعف الحسنات، وهذه الأشهر الحرم فيها تقرب من الله –عز وجل- بالطاعات، ولا سيما عبادة الصيام ..
لكن لا خصوصية ليوم من الأيام في هذا الشهر سوى ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال العلامة النووي رحمه الله تعالى: «قال أصحابنا: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وأفضلها المحرم».
هذا وقد أوصى رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم رجلا يقال له الباهلي « ..فقَالَ : «صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَيَومًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» قَالَ: زِدْنِي، فَإنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ: «صُمْ يَوْمَيْن» قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: «صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ» قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: «صُمْ مِنَ الحُرُم وَاتركْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتركْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتركْ» وقال بأصابِعه الثَّلاثِ فَضَمَّها، ثُمَّ أرْسَلَهَا» .. أخرجه أبو داود وسنده حسن.. وهو أحسن ما يحتج به في الإكثار من الصيام في هذا الشهر..
لذلك ؛ يشرع فيه من الصيام ما يشرع في غيره من الشهور ، من صيام الاثنين والخميس والأيام الثلاثة البيض وصيام يوم وإفطار يوم ، والصيام من أوسط الشهر أو أوله أو آخره ..
ومن هنا يعد العمل الصالح في شهر رجب من حسن الاستعداد لشهر رمضان..
والنهي فيه عن صيام الثلاثة أشهر متوالية ، وكذلك صيام الدهر ..
قال العلامة ابن القيم : ولم يصم صلى الله عليه وسلم الثلاثة الأشهر سردا ( أي رجب وشعبان ورمضان ) كما يفعله بعض الناس ..
العنصر الثالث :حكم القتال في الأشهر الحرم :
قال تعالى : ” يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير “..جمهور العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى : ” فإذا أنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ” وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتالهم مطلقا .
واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم .
وقال آخرون : لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها فإنه يجوز . وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك لأن أول قتالهم في حنين في شوال .
وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود فيه الدفع ، فإذا دهم العدو بلدا للمسلمين وجب على أهلها القتال دفاعا سواء كان في الشهر الحرام أو في غيره .
وكثيرٌ من الفقهاء غلَّظوا الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في هذه الأشهر، كما عزَّرُوا على انتهاك الحرمات، وكان العرب يتمسَّكون بملة إبراهيم في تعظيم الأشهر الحُرُم، حتى لو لقي الرجل قاتلَ أبيه لم يتعرَّض له، وقد أقرَّ الشارعُ عظمتَها وحرمتَها فقال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)[الْبَقَرَةِ: 217].
قال البيهقي : كان أهل الجاهلية يعظّمون هذه الأشهر الحرم وخاصة شهرَ رجب فكانوا لا يقاتلون فيه .ا.هـ.
و في تحريم سفك الدماء في هذه الأشهر وفي تحريم القتال. أيها الأحبة: كم تساوي الأربعة الحرم بالنسبة للاثني عشر شهرًا؟! ثلث العام، فثلث العام سلم وسلام وأمن وأمان، يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، يأمنون في أشهر الحج للحج، ويأمنون في شهر رجب للعمرة، يأمنون في هذه الأشهر، على أموالهم ودمائهم.
عظم الإسلام الدم، وجعل سافك الدم مرتكبًا لإثم كبير، وفي هذه الأشهر تتضاعف تلك الجريمة، إنها رسالة للعالم وللإنسانية أن هذا الدين دين سلام وآمان لسائر البشر..
أمّن الإسلام الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، وجعل هذه الأشهر يحرّم فيها القتال، فهلا فقهت البشرية؟! وهلا اعتبر عقلاء الإنسانية إلى هذا الدين العظيم ؟!..
♦♦العنصر الرابع ♦♦.
بدع منكرة في شهر رجب ..
وقد ابتدع بعض الناس في رجب أمورا متعددة فمن ذلك :
١- صلاة الرغائب : وهذه الصلاة شاعت بعد القرون المفضلة وبخاصة في المائة الرابعة ، وقد اختلقها بعض الكذابين وهي تقام في أول ليلة من رجب ..
قَالَ العلامة النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ -:صَلَاةُ الرَّغَائِبِ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكرَةٌ أَشَدَّ إِنْكَارٍ، مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مُنْكَرَاتٍ، فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وَإِنْكَارُهَا عَلَى فَاعِلِهَا..
وقال ابن تيمية رحمه الله : صلاة الرغائب بدعة باتفاق أئمة الدين كمالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث وغيرهم .ا.هـ.
٢- العَتِيرَة :
كانت العرب في الْجَاهِلِيَّةِ يَخُصُّونَ شَهَرَ رَجَبَ بِالذَّبَائِحِ لِأَصْنَامِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ ؛ يتقربون بها لأوثانهم . الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَمِنْهَا الذَّبِيحَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَتِيرَةِ، وَيُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاس الرَّجِبَيةِ؛ لِأنَّهُمْ يَذْبَحُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فِي رَجَبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، أَبْطَلَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كَمَا فِي الصَّحِيحِ، قَالَ: (لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ)؛، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ – رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاه -: “لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ عَتِيرَةٌ”، إِنَّمَا كَانَتِ الْعَتِيرَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يَصُومَ رَجَبَ، وَيَعْتِرُ فِيهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَالْعَتِيرَةُ: ذَبِيحَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَجَبَ وَيُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّةَ أَيْضًا..فلما جاء الإسلام بالذبح لله تعالى بطل فعل أهل الجاهلية واختلف الفقهاء في حكم ذبيحة رجب فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن فعل العتيرة منسوخ واستدلوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث السابق ..
وذهب الشافعية إلى عدم نسخ طلب العتيرة وقالوا تستحب العتيرة وهو قول ابن سيرين .
بنية إطعام الطعام خاصة للفقراء والمساكين والمحتاجين ..
قال الحافظ ابن حجر : ويؤيده ما أخرجه الحاكم وصححه : أن رجلاً نادى على رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا . قال : اذبحوا في أي شهر كان ……الحديث .
قال ابن حجر : فلم يبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم العتيرة من أصلها وإنما أبطل خصوص الذبح في شهر رجب ..
والنبي صلى الله عليه لم يمت إلا وقد اكتمل الدين قال تعالى : ” اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ” وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد . (متفق عليه) ..
وختاماً:
جدوا يا عباد الله فما مر لا يعود ، جدوا -رحمكم الله-، فأمامنا يوم ثقيل تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد..
أين المتاجرون مع الله في هذه الأيام المباركات ، أين الرابحون ؟! أين من أقبلوا على الواحد الديان؟!..
إن الأيام تمر مسرعات، وهي مراحل نطويها إلى الدار الآخرة، أيام تمر نقطعها مرحلةً مرحلةً، وكل يوم يمر يقربنا إلى الدار الآخرة. فهلا اعتبرنا بسرعة مرور الأيام؟! هلا اعتبرنا بما مضى كيف مضى؟! هلا اعتبرنا كم ودعنا في الأيام الماضية من حبيب وقريب وصاحب؟! هلا اعتبرنا بمن رحلوا للدار الآخرة؟!
أيها الأحبة: إنها حقيقة الدنيا، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26،27]..
فعلى المرء المسلم أن يتقي الله –عز وجل-، وأن يراقب ربه -تبارك وتعالى- في نفسه في هذه الأشهر
فالإكثار من الطاعات والبعد عن المعاصي تعظيم لحرمات الله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30]، واجتناب الظلم أيًّا كان نوعه واجب في سائر العام، وهو في الأيام القادمة أشد وجوبًا..
يجب اقتناص الفرصة قبل فوات الأوان، فالناس إن لم يجمعهم الحق شعَّبهم الباطل، وإذا لم توحدهم عبادة الرحمن فرقَّتَهْم غِواية الشيطان، وإن لم يستهوهم نعيم الآخرة اجتالهم متاع الدنيا فتخاصموا عليها وتنافسوها..
نسأل الله أن يجعلنا ممن يعظّمون حرماته ويلتزمون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا ، وإن يعيننا جميعا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن ينصر دينه ويعز جنده وان يحفظ بلدنا مصر وسائر بلاد المسلمين وأن يحقن دماء المسلمين في كل مكان يارب العالمين .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..