العنف الأسري: جروح لا تلتئم

بقلم الدكتور : مصطفى عبد الله – باحث في العلوم الإنسانية

في صمت الليل، حيث يسكن السكون، وتغفو الحياة في أحضان الهدوء، هناك من لا يعرفون النوم ، وهناك من يسهرون في ليل طويل يتسلل فيه الألم، حيث لا صوت سوى صراخ أرواحهم المكسورة ، وحين تظن الأعين أن العالم في أمان، تكون الحقيقة أبشع من ذلك.

في داخل البيوت التي يفترض بها أن تكون ملاذا ، هناك من يتألمون ، من يعانون في صمت لا يسمع ، جروحهم لا تلتئم بسهولة، لأنها جروح نفسية وعاطفية وعميقة إلى حد أن الجسد لا يمكنه أن يحتملها.

العنف الأسري ليس مجرد تصرف أو حادث فردي، بل هو قسوة تمتد إلى قلب الحياة، يتسلل إلى العقول ويخترق الجدران والأرواح. إنه كالسهم المسموم الذي يقتلع الأمل من القلب، ويزرع مكانه الخوف والشك، مع كل لحظة، مع كل كلمة جارحة، ومع كل تصرف يهدم جزءا من النفس.

إنه العنف الذي يبدأ بالكلمات، ثم يتحول إلى ضرب، ثم يغرق الروح في دوامة لا تنتهي من العذاب الداخلي.

في هذا العنف، لا يشبع الجلاد انتقامه فحسب، بل يزرع في قلب الضحية جروحا لا تلتئم أبدا، جروحا تظل تدمى مع مرور الزمن.

ولكن الأسوأ من ذلك هو أن هذه الجروح لا تقتصر على الضحايا فحسب، بل تمتد إلى الجميع.

فالعنف الأسري ليس مجرد قضية فردية بل هو قضية مجتمعية تؤثر على العلاقات، وتؤثر في تربية الأجيال، وتشوه المعايير الإنسانية.

كل طفل ينشأ في بيت يعمه العنف يكتسب تصورات عن العلاقات غير صحية، ويكبر وهو يحمل داخله هذا العبء الثقيل الذي يعيد إنتاج نفسه في المستقبل.

ما يبدأ من جرح صغير في منزل صغير قد يتحول إلى آلام جراحات جماعية في المستقبل.

يعيش الأطفال الذين يتعرضون لهذا العنف في حالة من القلق المستمر، لا يعرفون متى سيبدأ الهجوم التالي.

مشاعرهم مشوشة، وتصوراتهم عن الحب والرعاية تتلوث بتلك اللحظات المظلمة التي تشهد على القسوة والتسلط .

فتظل أرواحهم جريحة ، وهم يكبرون في صمت، يبحثون عن طريقهم في عالم لا يمكنهم فهمه، يدفعهم الخوف إلى الانعزال ، ويغرقهم العذاب في دوامة من الشكوك التي لا تتوقف .

وفي غمرة هذا الصمت الذي يعتري المجتمع، يكمن الخطر الأكبر.

نحن جميعا نساهم في استمرار العنف عندما نصمت عنه، عندما نغض الطرف عن مأساته ونبرر تصرفات الجلادين بدافع الحياء أو الخوف.

فالصمت هنا ليس مجرد غياب للكلام، بل هو مشاركة في إدامة الألم، مشاركة في تدمير الأرواح الطيبة التي تسكن بيننا.

ولعل المأساة الكبرى في هذا الصمت هو أنه يضفي شرعية على القسوة، ويعطيها مساحة للاستمرار تحت غطاء العادات أو التقاليد أو التبريرات الوهمية التي تجعل من العنف أمرًا مقبولًا في بعض الأحيان.

لكن لا بد من أن نكسر هذا الصمت، لا بد من أن نرفع أصواتنا ضد هذا الوحش الذي يهاجم الأرواح، ويغتال البراءة والطمأنينة في النفوس.

لا يمكننا أن نسمح لهذا الظلم بأن يستمر دون مقاومة، لأن السكوت على هذه الجروح يعني استمرار نزيف الأرواح.

يجب أن نكون الحائط المنيع ضد هذا الظلام الذي يحاصر حياة الكثيرين.

يجب أن نعيد للضحايا آمالهم، وأن نؤمن لهم بيئة تزرع فيهم الأمل لا الخوف، الكرامة لا الذل، الحياة لا الموت البطيء.

إذا استطعنا أن نكسر الصمت ونعيد بناء الثقة بين الأفراد، وإذا وقفنا مع من يعانون من العنف الأسري، فإننا لن نعيد لهم فقط جزءا من حياتهم، بل سنعيد أيضا للمجتمع توازنه وسلامه الداخلي.

فالعنف الأسري لا يهدم الأفراد فقط ، بل يهدد سلامة المجتمع بأسره، ويخلق حلقات مفرغة من المعاناة التي تنقل من جيل إلى جيل.

الوقت حان لنقف معا ونقول لا للعنف الأسري، لننقذ الأرواح، ولنترك خلفنا ماضيا قاتما، ولنبدأ مرحلة جديدة من التضامن، الحب، والاحترام بين جميع أفراد المجتمع.

لأن جروح العنف الأسري لا تلتئم أبدا، إلا إذا عملنا معا لتضميدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *