خطبة بعنوان ( الدين يسر ) للشيخ يسرى عبدالرحمن
30 ديسمبر، 2024
خطب منبرية

خطبة الجمعة القادمة بإذن الله: (الـدِّينُ يُسْـرٌ )
إعداد الشيخ / يسري بن عبد الرحمن – أوقاف أسيوط
الحمد لله الكريم المجيب لكل سائل … التائب على من تاب فليس
بينه و بين العباد حائل …جعل ما الأرض زينه لها و كل نعيم لا محاله زائل …
حذر الناس من الشيطان و للشيطان منافذ و حبائل …
فمن أسلم وجهه لله فذاك الكيس العاقل … ومن استسلم لهواه فذاك الضال والغافل …
واشهد أن لا اله الا الله المنزه عن الشريك والشبيه والمشاكل …
من للعباد غيره ومن يدبر الأمر ويعدل المائل …
من يشفى المريض ومن يرعى الأجنة فى بطون الحوامل …
من ينصر المظلوم ولولا عدله لاستوى القتيل والقاتل …
من يظهر الحق ولولا لطفه لحكم القضاة للباطل …
من كسانا من اطعمنا وسقنا ومن هيا لنا المخارج والمداخل …
من سخر لنا جوارحنا ومن طوع لنا الاعضاء والمفاصل …
من لنا اذا انقض الشباب وتقطعت بنا الأسباب والوسائل …
هو الله… هو الله الاله الحق ، وكل ما خلا الله باطل …
واشهد أن محمد عبد الله ولرسالة الحق حامل …
النبي العربى القرشى الأمى الذى لم تنجب مثله القبائل …
سل البلد الحرام متى أينعت الزهور وغردت البلابل …
سل آمنة الشريفة حين وضعته من كنا لها القوابل …
سل حليمة التى ارضعته كيف سارت ناقتها بين الرواحل …
سل رمل مكة عن عن عفافه ، وسل منها العوالى والأسافل …
سل خديجة عن حملانه الكل ومن ناءت بحمله الكواهل …
سل آل هاشم كيف كانوا عنده فى رحمة وتواصل …
سل اليتامى من كفلهم ،وسل عن حنانه الأرامل …
سل الحجر الأسود من وضعه فى مكانه ومن كان للأمور الجلائل ..
سل الحكماء اذا تكلم النبى فهل هناك مقالة لقائل …
سل الأصحاب عن دفاعه عن الحق وكيف كان يناضل …
سل راية التوحيد من رفعها فهدمت للشرك المعاقل …
سل العدل كيف تحقق فسارت بأمانه الظعائن والقوافل …
اللهم صل وسلم وبارك عليه وقنا بحبه شر النوازل ….
وارزقنا شفاعته عند الخطوب وفى كل المنازل ………..
أما بعد:معاشر السادة الموحدين
رفع الحرج من مقاصد الشريعة:
لقد خصَّ اللهُ عز وجل هذه الأمة بمزيَّة لم تكن توجد عند باقي الأمم والديانات السابقة لها، وهي أنَّ التكاليف الشرعية جاءت مُيسرة لا مَشقة فيها ولا عُسر، حتى تتماشى مع الطبيعة البشرية التي من عادتها أنها تنفر من الصعوبات، وتمقت التعقيدات، وذلك بسبب ما فطرت عليه من الضعف كما أخبر بذلك ربنا تبارك وتعالى بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [النساء: 28]
وهذا من رحمة الله التامة وإحسانه الشامل على عباده، فالإنسان بطبيعته يعتريه الضعف من كل الوجوه ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته
ورفعٌ الحرج عن الأمة والتيسير مقصد من مقاصد هذا الدين، وصفة عامة للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها؛ فربنا بمنه وكرمه لم يكلف عباده بالمشاق، بل أنزل دينه بالرفق والتيسير.
مفهوم اليسر والعسر
– اليسر كل عملٍ لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر: كل ما أجهد النفس وأضر بالجسم.
– وقيل : اليسر هو فـعل ما يحقق الغاية بأدنى قدر من المشقة،
الأدلة على يُسرِ الشريعة الإسلامية:
أولا- في القرءان الكريم:
– قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]
– وقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]
– وقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]
ثانيا – في السنة النبوية:
*عَنْ أَنَسِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا) مسلم
* وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النبي ﷺ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ)متفق عليه
*وَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ) بن حبان
* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا) النسائي
تلك هي القاعدة الكبرى في الشريعة الإسلامية أن مبناها على التيسير الذي لا مشقة فيه ولا عسر.
مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية:
1- تيسير القرءان:
فقد جعل الله عز وجل القرءان ميسرًا حتى يسهل الأخذ به وفهمه وتدبره وحفظه،
ومعنى تيسير القرءان:
– تيسير اللفظ وخلوه من التعقيد حتى يسهل حفظه وتسهل تلاوته على الألسن، ولم يكن شيء من كُتِبِ الله تعالى يحفظ عن ظهر القلب غير القرآن.
– تيسير المعنى حتى يسهل فهمه وتدبره على الناس،
قال سبحانه: {إِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97]
وقال عز وجل: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [الدخان: 58]
القرطبي:
– أَيْ سَهَّلْنَاهُ بِلُغَتِكَ عَلَيْكَ وَعَلَى مَنْ يَقْرَؤُهُ لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ وَيَنْزَجِرُونَ.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }[القمر: 17]
القرطبي:
– أَيْ سَهَّلْنَاهُ لِلْحِفْظِ وَأَعَنَّا عَلَيْهِ مَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ، فَهَلْ مِنْ طَالِبٍ لِحِفْظِهِ فَيُعَانُ عَلَيْهِ؟
– عن ابن عباس :لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله، عز وجل
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَيْسَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ كِتَابٌ يُقْرَأُ كُلُّهُ ظَاهِرًا إِلَّا الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ إِلَّا نَظَرًا، غَيْرَ موسى وهرون ويوشع ابن نُونٍ وَعُزَيْرٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ افْتُتِنُوا بِعُزَيْرٍ لَمَّا كَتَبَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ حِينَ أُحْرِقَتْ،
2- العقيدة الإسلامية:
العقيدة في اللغة تأتي بمعنيين
الأول: العقيدة بمعنى الاعتقاد، فهي التصديق والجزم دون شك، أي الإيمان.
الثاني: العقيدة بمعنى ما يجب الاعتقاد به.
وجوهر العقيدة الإسلامية هو (التوحيد)
محاورالعقيدة:
1- الذات الإلهية: فتكون عن الله تعالى، من حيث صفاته وما يتنزه عنه ولا يصح بأن يوصف به، وحقوقه على الناس.
2- رسل الله: مكانتهم، وما يجب فيهم، ويجب عليهم، وكذلك ما يجوز في حقهم، ويستحيل، ومالهم على العباد من حق
3- الأمور الغيبية (السمعيات): مثل أشراط الساعة، وأحداث يوم القيامة، وما إلى ذلك.
– يقول الإمام الشاطبي: ” إن التَّكَالِيفَ الِاعْتِقَادِيَّة جَاءَت سهلة يسيرة حَتَى تَكُونَ قريبةً لِلْفَهْمِ، مُسهلةً عَلَى كل الْعُقُولِ، بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجُمْهُورُ الأمي والمتعلم الصغير والكبير “
ومن الأدلة على سهولة العقيدة وعمومها أن الأعاجم لا يجدون فيها صعوبة ولا مشقة، حديث أبي هريرة: أنَّ رجلًا أتى النبيَّ ﷺ بجاريةً سوداءَ ، أعجميةً فقال:يارسولَ اللهِ إنَّ عليَّ عتقَ رقبةٍ مؤمنةٍ فقال لها : أين اللهُ ؟ فأشارت بالسبابةِ إلى السماءِ فقال لها من أنا ؟ فأشارت بأصبعِها إليه ، وإلى السماءِ ، أي أنت رسولَ اللهِ فقال أعتِقْها “ابو داود
3- اليسر في الأحكام الشرعية:
الأحكام التكليفية خمسة وهي: الإباحة، والندب، والكراهة، والوجوب، والتحريم.
– فأما المباحات: فلا مشقة فيها من جهة الشرع لأن الخيار في فعلها أو تركها إلى المكلف.
– وأما المندوبات: رغب المشرع وخير في فعلها ومن فعلها أُجر
– وأما المكروهات فقد نهي عن فعلها وبين ضررها
– وأما الفرائض والواجبات: كانت الشريعة في هذا الأمر جارية على الطريق الوسط الأعدل.وليس فيها أدني مشقة
– أما المحرمات: فإن التيسير فيه واضح، فإن الشارع الحكيم برحمته ضيَّقَ باب التحريم جدًا، حتى إن محرمات الأطعمة يوردها القرآن غالبا على سبيل الحصر والقصر، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة: 173]
فالأصل في المطعومات ونحوها الإباحة، والتحريم استثناء
4- العبادات:
وفي تيسير العبادة تخفيف على الناس حتى يسهل أداءها بلا مشقة، ومن مظاهر تيسير العبادة في الإسلام:
– تيسير الطهارة:
الطهارة من الأمور الضرورية التي يحتاج إليها المسلم في صلاته وغسله وسائر عباداته، ولو كان فيها شيء من الشدَّة لكان أداء العبادة صعبًا، وهذا من رحمة الله بعباده، ومن ذلك:
أن الله عز وجل شرع التيمم عند انعدام الماء أو تعذر استعماله،
وجعل طهارة الثياب إذا أصيبت بالنجاسة بالنضح أو الغسل، وقد كانت على خلاف ذلك عند السابقين من الأمم قبلنا، فَعَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ َيَقُولُ: ” إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ
– تيسير الصلاة:
فرضت الصلاة خمس مرات في اليوم وقد كانت خمسين في البداية ثم خففت لخمس بأجر خمسين، وهي لا تحتاج إلي وقت طويل ولا تعيق الإنسان عن أداء أعماله اليومية، ومن التيسير في الصلاة، كالجمع بين الصلوات وقصر الصلاة الرباعية ركعتين في السفر، والجو الماطر، وتخفيفها في حالة المرض والعجز كقول النبي ﷺ لمن أصابه المرض صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)
– تيسير الزكاة:
فُرِضَت الزكاة طهرة للمؤمنين وصدقة على الفقراء والمساكين،
ولم تفرض إلا بقدر من المال قليل بعد بلوغ النصاب وحول الحول عليها باستثناء أموال أخرى لا تحتاج إلى حول كزكاة الحرث والركاز وغيرها.
ومن التيسير أيضًا أن الشارع حدد نصابها وأصنافها وحدد مصارفها الشرعية.
– تيسير الصيام:
فقد رخص الإسلام الإفطار للحامل والمرضع إن خافت على نفسها وولدها، وكذلك رخص في الإفطار للمسافر والشيخ الكبير العاجز.
– تيسير الحج:
ومن تيسير الحج أن الله عز وجل لم يفرضه إلا على المستطيعين من المكلفين، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران: 97]
ومن سُبل تيسير الحج في الشريعة الإسلامية أنه رخص لمن عجز عن الحج أن يوكل أو يستأجر من يحمله أو يحج عنه كما في الحديث أن امْرَأَةً مِنْ خَشْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ).
5- تيسر المعاملات:
للمعاملات نصيب من التيسير كما هو موجود في سائر أمور الدين ومن ذلك:
6- البيوع:
فقد رغب الشرع في التسامح بين الناس في البيع والشراء كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى)
وكذلك شرع فيها بعض الأمور التي تجلب التيسير فيه، كخيار المجلس، ورد السلع للعيب كل ذلك شُرع دفعًا للضرر بين المتبايعين. وشُرع خيار الشرط للمشتري دفعًا للندم
7- المطالبة بالديون:
– إذا تبين للدائن أن المدين معسر لا يجد ما يؤدي به فإن الإنظار واجب، وذلك تيسرًا عليه لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 280]
ولقول النبي ﷺ عن حذيفة بن اليمان: (تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لاَ، قَالُوا: تَذَكَّرْ، قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، قَالَ ﷺ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَوَّزُوا عَنْهُ) البخاري ومسلم
الخطبة الثانية
سوء فهم التيسير:
لكن إشكالًا قد يحصل للبعض من أبناء الإسلام: بأن يفهموا اليسر على غير حقيقته، مما يدفعهم إلي إهمال كثير من الأمور الشرعية بحجة التيسير والتخفيف على أنفسهم، والعجيب أن مثل هؤلاء يحتجون ببعض الأدلة الشرعية دون فهم لها، ويتتبعون الرخص وزلات العلماء بحجة أن هذا الدين يسر، فيأخذوا بقول كل واحد دون النظر هل هذا القول موافق للشرع أم لا؟! المهم عندهم أن يوافق أي قول هواهم، وصدق الله إذ يقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} [البقرة: 85]
فلا يجوز تمييع أمور الدين بحجة التيسير لأن هذا مما لا يُقبلُ في الشريعة الإسلامية أبدًا،
فاتباع الشرع والالتزام به هو سبيل التيسير، وعلى هذا سار سلفنا الصالح رحمة الله عليهم يقولُ عُمَيْرُ بْنُ إِسْحَاقَ: “لمَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَكْثَرُ مِمَّنْ سَبَقَنِي مِنْهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَيْسَرَ سِيرَةً، وَلَا أَقَلَّ تَشْدِيدًا مِنْهُمْ”
لكن هل معنى التيسير ترك التكاليف الشرعية والسعي وراء الملذات والملهيات؟! أم للأمر ضابط يحكُمُه
الفرق بين التيسير والتساهل
أيها المسلمون: ولا ينبغي أن يفهم من القول بالتيسير والتحذير من التشديد.. الدعوة إلى التساهل في أمور الدين، عقيدةً وأحكاماً وأخلاقاً، أو التنصل من أحكام الإسلام، أو الضعف في نصرة الدين والحق.
وليس من التيسير:
– الإهمال في تربية البنين والبنات، وتركهم نهباً لزيغ العقائد وتيارات الإلحاد، والبعد عن الالتزام بأحكام الإسلام، والحفاظ عليهم من دواعي الفجور واللهو المحرم بحجة التحضر والبعد عن التعقيد وتغير الزمان.
– ما يسلكه بعض من ينتمون إلى الثقافة حين يدَّعون سماحة الدين أمام أعداء الإسلام، ويتنصلون من أحكام الدين وتعاليمه، ثم هم من أشد الناس على الصلحاء والأخيار، بل قد يوظفون دعوى التيسير أداةً لقمع الدعوة إلى الإسلام، وكبت الحق وتكبيله بحجة مساوقة العصر ومتغيرات الزمن.
– التساهل في الفتوى فمعناه: أن يعجل المفتي فيفتي من غير نظر، أو بغير تثبت واستجماع للمصادر، أو أن يبادر إلى الفتوى لهوى في نفسه، أو يتبع الحيل المحرمة أو غير ذلك، فهذا الفعل لا خلاف في حرمته.
نماذج من اليسر في الدين وشخصية النبي ﷺ:
تجد أن النبي ﷺ حينما دعا، قال لقريش: {يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} ما قال: هؤلاء القوم مشركون ووثنيون، وقديمو عهد بكفر،
كان الرجل من الناس يأتي إلى النبي ﷺ وقد قضى خمسة وعشرين سنة في الجاهلية، وقضى خمسة وثلاثين سنة وهو يسجد للآت والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فيجلس إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دقائق، أو ربع ساعة على أكثر، فيعلمه الدين والإسلام، ويخرج هذا الرجل -لا أقول مسلماً- بل يخرج مسلماً مؤمناً داعيةً إلى الله عز وجل.
نموذج آخر ليسر النبي ﷺ
وهاهنا نموذج من نماذج اليسر: أنَّ عتبانَ بنَ مالكٍ وهو أحدُ بني سالمٍ قال : كنتُ أصلِّي لقومي في زمنِ النبيِّ ﷺ فلما ساءَ بَصَرِي وبيني وبين قومي وادٍ طفقتُ يشقُّ عليَّ إجازةُ الوادي إذا كانتِ الأمطارُ فشكوتُ ذلك إلى رسولِ اللهِ ﷺ قلتُ : يا رسولَ اللهِ وددتُ أنك تأتِيني فتصلِّي في بيتي في مكانٍ أتَّخِذُه مصلًّى فقال رسولُ اللهِ ﷺ سأفعلُ ، قال عتبانُ فغدا عليَّ رسولُ اللهِ ﷺ وأبو بكرٍ حين تعالَى النهارُ فاستأذنَ فأَذِنتُ له فلم يجلسْ حتى قال : أين تُحِبُّ أن أصليَ من بيتِك ؟ فأشرتُ له إلى المكانِ الذي نريدُ فقام رسولُ اللهِ ﷺ وكبَّرَ وصلَّى ثم سلَّمَ وجلس في مصلَّاه وحبسناهُ لخزيرٍ يُصْنَعُ له فسمع رجالُ أهلِ الدارِ وهم يدعون والدورِ قُرْبَهم فلم أشعر حتى كثُرَ الرجالُ في بيتي فقال رجلٌ منهم فأين مالكُ بنُ الدُّخْشُمِ لا أراهُ أتى ؟ فقال رجلٌ آخرُ منهم : ذلك منافقٌ لا يُحبُّ اللهَ ولا رسولَه فقال رسولُ اللهِ ﷺ: لا تقلْ ذلك ألا تراهُ قد قال : لا إلهَ إلا اللهُ يبتغي بذلك وجْهَ اللهِ ؟ فقال الرجلُ : اللهُ ورسولُه أعلمُ ، أما نحنُ يا رسولَ اللهِ فما نرى مودَّتَه ونصيحتَه ووجهَه إلا إلى المنافقين ، قال رسولُ اللهِ ﷺ فإنَّ اللهَ قد حرَّمَ على النارِ من قال لا إلهَ إلا اللهُ يبتغي بها وجْهَ اللهِ والدارَ الآخرةَ) البخاري