الصوفية: مدرسة سلوكية وعمق روحاني ينهل من الإسلام

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )

التصوف ليس مجرد جانب تاريخي أو فكري في الإسلام، بل هو روحانية تعكس جوهر الدين وتُعبر عن السعي الحقيقي نحو الإحسان، الذي عرفه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.

التصوف ليس مذهبًا عقديًا منفصلًا، بل مدرسة سلوكية تنطلق من جوهر العقيدة الإسلامية، تهدف إلى تهذيب النفس، وتزكية الروح، والسير إلى الله بالحب والذوق الروحاني.

تعريف التصوف لغة واصطلاحًا

لغةً، يُقال إن “التصوف” مشتق من “الصفاء”، أي النقاء الداخلي والروحاني، أو من “الصوف”، في إشارة إلى اللباس البسيط الذي ارتداه الزهّاد والعبّاد تعبيرًا عن زهدهم في الدنيا. اصطلاحًا، التصوف هو السعي إلى تحقيق الكمال الروحي من خلال الإحسان، الذكر، التفكر، والتقرب إلى الله بحب صادق وعمل دؤوب.

التصوف وتحقيق مرتبة الإحسان

التصوف هو السعي العملي لتحقيق الإحسان الذي أشار إليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. إنه تحقيقٌ لعمق الإيمان والعبودية لله بطريقة تتجاوز الجوارح إلى القلوب، فالمتصوفة يعتقدون أن العبودية ليست مجرد أداء العبادات الظاهرة، بل هي حب عميق لله يجعل المؤمن يرى عظمة الخالق في كل شيء.

التصوف والصحابة

كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أولى النماذج للتصوف الحقيقي. سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عُرف بتقشفه وزهده رغم كونه خليفة المسلمين، وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه مثّل نموذج السخاء الروحي والمادي. سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كان من أكثر الصحابة تعمقًا في الجانب الروحي، حيث قال: “من أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس”.

كما أن سيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنه كان زاهدًا متفردًا يدعو الناس إلى ترك الدنيا والتفكر في الآخرة.

نشأة التصوف

نشأ التصوف في الإسلام مع بداياته، حيث كان الصحابة والتابعون يعيشون حياة الزهد والعبادة الخالصة. في القرن الأول الهجري، ظهر الزهّاد الذين ركزوا على عبادة الله بطريقة متفانية، وكان سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه أبرز هؤلاء. في القرن الثاني والثالث الهجري، تطور التصوف ليصبح مدرسة متكاملة تجمع بين العبادة والروحانية والفكر، وكانت السيدة رابعة العدوية رضي الله عنها نموذجًا راقيًا لهذه المدرسة، حيث رفعت مفهوم حب الله إلى أسمى درجاته.

معاناة المتصوفة

رغم عمق رسالتهم الروحية، تعرض المتصوفة عبر التاريخ إلى حملات تكفيرية وافتراءات ظالمة من التيارات المتشددة.

كان الحسين بن منصور الحلاج أبرز مثال على ذلك، فقد أُعدم بعد اتهامه بالكفر بسبب أقواله الروحية التي لم يفهمها خصومه، مثل قوله: “أنا الحق”. لم يكن الحلاج يدّعي الألوهية، بل كان يعبر عن حالة روحية يرى فيها أنه فانٍ في الله.

الإمام أبو حامد الغزالي، الذي يُعد من أعظم علماء الإسلام، واجه أيضًا اتهامات من بعض الفقهاء بسبب دفاعه عن التصوف في كتابه الشهير “إحياء علوم الدين”. ابن عربي، الذي لقب بـ”الشيخ الأكبر”، كان له نصيب كبير من الهجوم بسبب فكره العميق حول “وحدة الوجود”، رغم أنه كان يرى في الكون تجليًا لعظمة الله.

التصوف ليس مذهبًا عقديًا

من أهم النقاط التي يجب توضيحها أن التصوف ليس مذهبًا عقديًا أو طائفة دينية مستقلة، بل هو مدرسة سلوكية تسعى إلى تحقيق الإحسان. المتصوفة هم أهل السنة والجماعة في عقيدتهم، يسيرون على نهج القرآن والسنة، لكنهم يركزون على تهذيب النفس والابتعاد عن المظاهر الدنيوية.

التصوف ومعاني الصفاء

التصوف، كما يشير اسمه، يرتبط بالصفاء الروحي. المتصوف يسعى إلى تنظيف قلبه من الشوائب، مثل الحسد والكبر وحب الدنيا، ليكون مؤهلًا للتقرب إلى الله. يقول سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه: “من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره”.

التصوف والعثمانيون

التصوف سبق الدولة العثمانية بقرون طويلة. نعم، العثمانيون دعموا التصوف واعتنقوا الطرق الصوفية، مثل الطريقة المولوية والنقشبندية، لكن ذلك لا يعني أن التصوف كان عثمانيًا.

التصوف هو جزء من الإسلام منذ بداياته، وازدهر في مختلف الحضارات الإسلامية، سواء في العهد العباسي، الفاطمي، أو المملوكي.

دور التصوف في المجتمع

التصوف ساهم بشكل كبير في بناء المجتمع الإسلامي. الطرق الصوفية لم تكن مجرد جماعات تعبد الله في الخفاء، بل كانت مراكز لتعليم القرآن والعلوم الشرعية، ونشر الإسلام في مناطق لم تصله الدعوة.

الصوفية نشروا الإسلام في إفريقيا وآسيا بالحب والسلوك الطيب، وليس بالسيف.

التصوف ومعاناته في العصر الحديث

في العصر الحديث، يواجه التصوف تحديات كبيرة. التيارات المتشددة تحاول تشويه صورته واتهامه بالبدع والخرافات، رغم أن المتصوفة كانوا دائمًا دعاة حب وسلام. ورغم هذه التحديات، يبقى التصوف حيًا في قلوب الملايين من المسلمين الذين يرون فيه طريقًا للتقرب إلى الله.

الصوفية: رسالة خالدة

التصوف هو دعوة إلى العودة إلى الروحانية الحقيقية للإسلام، إلى العبادة الخالصة لله، وإلى الأخلاق الفاضلة.

الصوفية لا تسعى إلى الحكم أو السيطرة، بل إلى تهذيب النفوس ونشر الحب. في عالم يعاني من الانقسامات، يبقى التصوف نموذجًا للأخوة الإنسانية والسلام.

إن التصوف يمثل العمق الروحي للإسلام، وهو تجربة شخصية وجماعية تجعل المسلم أقرب إلى ربه وأكثر حبًا لإخوانه في الإنسانية. في كل زمان ومكان، يبقى التصوف رسالة خالدة تدعو إلى الصفاء، الحب، والإحسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *