بقلم الأستاذ الدكتور : طلعت أبو حلوة ( أستاذ البلاغة ووكيل كلية الدراسات الإسلامية – جامعة الأزهر الشريف )
إن التطرف الفكري ظاهرة مرضية بكل ما توحيه الكلمة من معنى، وهو يخالف طبيعة الإسلام ووسطيته، ويخالف كذلك طبيعة الشعب المصري المعروف بالوَداعة والمسالمة ومواجهة الأمور بالرفق والتي هي أحسن، ويتعارض مع القيم الأساسية له، ويتجاوز حدود الحرية والديمقراطية، ويعد هذا النوع من التطرف أخطر أنواع التطرف؛ لأن التطرف السلوكي نابع منه، ومبنيّ عليه، وتابع له، فما من عمل إلا ويسبقه فكر، فإن استقام الفكر استقام العمل، وإلا فلا؛ ولذا كانت العناية بتقويم الفكر وإصلاحه وتصحيحه أولى خطوات الإصلاح الذي جاء به الأنبياء، ونادى به المصلحون.
وقد اختلفت عبارة العلماء في مفهوم هذا المصطلح، ولكنها تكاد تتفق في المعنى والمضمون، فقد عرف البعض التطرف عمومًا بأنه “مجاوزة الاعتدال وعدم التوسط في الفكر أو في السلوك”
وعرفه الأستاذ/ حسن محمود خليل بأنه “هو الجنوح فكرًا وسلوكًا إلى أقصى اليمين، أو إلى أقصى اليسار”
وعرف د/ محمد إبراهيم الفيومي التطرف الفكري بأنه “وصف معياري لآراء تنسب لأفراد أو جماعات”
وبهذا نستطيع أن نقول: إن التطرف الفكري عبارة عن آراء وأفكار أو نزعات فكرية تتصف بالغلو والتجاوز والابتعاد عن حد الاعتدال والتوسط إفراطًا أو تفريطًا، وتتضمن الخروج عن القواعد والأصول والمعايير التي يقرها الشرع والعقل والقانون، ويقبلها المجتمع.
وإذا كانت الفضيلة وسطًا بين رذيلتين كفضيلة الكرم بين رذيلتي الإسراف والبخل، وكفضيلة الشجاعة بين رذيلتي التهور والجبن، وكفضيلة الاعتدال بين رذيلتي الإفراط والتفريط، فإن التطرف الفكري خروج عن الوسطية، ومجاوزة لحد الاعتدال، وجنوح في الفكر إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار، وهو أمر مذموم، يقول الشاعر الحكيم أبو سليمان الخطابي:
ولا تَغْلُ في شَيءٍ من الأمرِ واقتَصِدْ … كلا طَرَفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذَمِيمُ
والإسلام لم يأتِ سيفاً مشرعاً على رقاب العباد مشدداً عليهم تشديداً يحرج الناس، ولم يأتِ كذلك رخواً تاركاً الناس في حِلٍّ من الأمر من غير ضوابط معتبرة تجعل حالهم وسطاً بين الأحوال، بل كان ديناً عدلاً قيِّماً يراعي جميع مناحي الحياة من غير تكلف ولا عناء، وذلك لأنه منهج رباني يعلم ما يصلح أحوال الناس في دنياهم وآخرتهم، ولقد ظهرت في الآونة الأخيرة تيارات فكرية مختلفة تنتهج سبيل التنطع والتطرف، وتسلك طريق التشدد والتعصب، وتنتحي أسلوب الغلو والتعنت، وتميل إلى العنف والعدوان، فيضع أصحابها الأمور في غير مواضعها، ويزنونها بغير موازينها، فيَضِلّون في أنفسهم، ويُضَلِّلون غيرهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنْعًا، وكأني بالمتنبي يعنيهم بقوله:
وَوَضْعُ النّدى في مَوْضِعِ السّيفِ بالعلا … مضرٌّ كوضْع السيفِ في مَوْضِعِ النَّدى
ويعد هذا الموضوع من الموضوعات الهامة التي تشغل بال كثير من الناس -ولا سيما الشباب- وتحتاج إلى معالجة تكشف عنه نقاب الخداع، وتميط عنه لثام المراوغة، وتبين زيفه وعواره، وتدمغ أدلته، وتدحض حججه، وتمحق باطله، وتُجَلِّي الحق ناصعًا خالصًا من كل ما يشوبه، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾
فالمتطرف ينزع النصوص من سياقاتها، ويفهمها على غير وجهها، ويؤولها على غير المراد منها، ويحرف الكلام عن مواضعه، ولا يميز بين الأصل والفرع، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، والثابت والمتغير، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، كما لا يميز بين الفتاوى والأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ولا يفرق بين أحوال العموم ووقائع الأعيان، وسنن العبادات وأعمال العادات، وأحكام الحرب وأحكام السلام، وحرية المعتقد وقبول الآخر، وأحكام المعاش وأحكام المعاد، فينكر المخالف، ويضيق به ويقصيه، أو يؤذيه ويعاديه، ولو علم لفهم أن الأمر بخلاف ذلك، ولعلم أن قادة الجماعات المتطرفة الذين تتلمذ على أيديهم من أهل الرواية، وليسوا من أهل الدراية، وأنهم يعوزهم حسن قراءة النصوص، وحسن قراءة الواقع العملي.
ومما لا شك فيه أن أي انحراف في السلوك هو نتيجة فكر متطرف، وتعاملُ الداعية مع الناس بأسلوب التَّشدُّد والتَّعْسِير والغلظة والجفوة، واستخدام أسلوب القسوة في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وعدم الرفق والتَّروي والتَّمهُّل فيه، والأخذ بالعزيمة والحمل على الأخذ بها، والإعراض عن الرخص التي شرع الله الأخذ بها، وتغليب الترهيب على الترغيب في الدعوة إلى الله، وتقديم الإنذار على التبشير، ومخاطبة النَّاس بما لا تتحمَّله وتطيقه عقولهم كاختلافات الفقهاء، وأقوال المتكلِّمين في المعتقدات، وغيرها من الأمور التي قد لا يستوعبها البعض، أو يفهمونها على غير وجهها الصَّحيح، كلُّ ذلك وما شاكله مما هو مخالف للفطرة البشرية، ولا يمكن تحمُّله، والالتقاء معه يُنَفِّرُ الناس من الاستجابة للدعوة، ويصدهم عنها، ويوقعهم في المشقة والحرج، ويقنطهم من رحمة الله -تبارك وتعالى- وييئسهم من رَوْحه.
ولقد تظاهرت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية وتضافرت على بيان وسطية الإسلام ويسره، والتحذير من الغلو والتطرف والتنطع، وقد جاءت نصوص هذه الأدلة بأسلوب صريح وواضح الدلالة بحيث لا تتعدد احتمالاتها، ومسوقة سوق الحقائق الناصعة القاطعة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾ ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ”، وقوله لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- حينما بعثهما إلى اليمن: “يَسِّرَا ولَا تُعَسِّرَا، وبَشِّرَا ولَا تُنَفِّرَا”، وقوله: “يا أيُّها النَّاسُ إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ؛ فإنَّهُ أهْلَكَ من كانَ قبلَكُمُ الغلوُّ في الدِّينِ”، وقوله: “هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ” قالها ثلاثًا ، وهم المتشددون، لكن المتطرف يغفل أو يتغافل عن هذه الأدلة، ويأبى إلا أن يتشدد ويتعنت، ويسلك مسلك الغلو والتنطع، وينتهج منهج التعسير والتنفير، ويلوي أعناق النصوص، ويُحَمِّلها ما لا تحتمل، ويفسرها على غير المراد منها، فيأتي بالتُّرَّهات والأوهام، وينطق بالأضاليل والأباطيل، وليته يقف عند هذا الحد، بل يريد أن يُلْزِم الناس بهذا الفهم السقيم الفاسد، وذلك التفسير المغلوط الخاطئ!!!
ولقد وَجَّهَ النبي -صلى الله عليه وسلم – العلماء العُدول من أمته إلى الوقوف في وجه التطرف الفكري بكل صوره، وذلك ببيان زيفه وفساده، وتجلية خداعه وأكاذيبه، وكشف أسبابه ودوافعه، والتحذير من شِباكه وأحابيله، ودحر أضاليله وأباطيله، والقضاء عليه بكل أشكاله وألوانه، فقال فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: “يَحْمِلُ هذا العِلْمَ من كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغالِينَ، وانْتِحالَ المُبْطِلينَ، وتَأْويلَ الجاهِلينَ”.
ويعد هذا الموضوع ميدانًا فسيحًا تتسابق وتتبارى فيه قرائح المفكرين وأقلام الباحثين، كاشفة النقاب عن أسبابه، وراصدة بواعثه ودوافعه، ومُبَيِّنة مظاهره، وواصفة علاجه، ومُوَضِّحة سبل القضاء عليه، وأساليب الوقاية منه، ولعلي بهذا المقال أكون قد أضأت في طريق الحق شمعة، أو وضعت في صرح العلم لبنة، وأرجو ألا أحرم ثواب المجتهد أصاب أو أخطأ، وأن يشفع لي حسن النية، وصدق العزيمة، ولله درّ حافظ إبراهيم حيث قال:
لا تَلُمْ كَفِّي إذا السَّيْفُ نَبا … صَحَّ مِنِّي العَزْمُ والدَّهْرُ أَبَي