الخوارج: سمات فكر يتجدد

بقلم الشيخ : عبدالله قدري سعد

الحمد لله الذي جعل أمة الإسلام وسطًا، وشرع لها من الدين ما تقوم به الملة، بلا غلو ولا تفريط، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرحمة المهداة، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فقد أخبر النبي ﷺ عن ظهور قوم يتكلّفون في العبادة، ويغْلُون في الحكم، ويُفسدون باسم الصلاح، فقال في الحديث الصحيح:
“يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم… يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”
(رواه البخاري [3610] ومسلم [1064]).

هؤلاء هم الخوارج، طائفة قديمة تتجدد بوجوه شتى، ورايات مختلفة، يجمعها فكر منحرف عن الجادة، ينطلق من الغلو في الدين، وسوء فهم النصوص، والجهل بمقاصد الشريعة.

 العلامات البارزة لفكر الخوارج:
1. تكفير المسلمين بغير حق

أصل البلاء عند الخوارج أنهم كفّروا من خالفهم، ولو كان من أهل الإسلام والتوحيد، واستحلوا بذلك دماءهم. وقد قال الإمام النووي رحمه الله:

“قال العلماء: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يجب عليه قتال، إلا أن يقاتلنا” (شرح مسلم 2/71).

وقد أنكر النبي ﷺ تكفير أهل القبلة، فقال: “من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما” (رواه مسلم [60]).

لكن الخوارج لا يبالون بذلك، يكفّرون الحكام والعلماء، والعامة والخاصة، إذا لم يوافقوهم على آرائهم واجتهاداتهم، فيسقطون آيات الكفر على المؤمنين، ويستحلون الحرمات باسم الدين.

2. احتكار النجاة وادعاء الطائفة المنصورة

يدّعي الخوارج دائمًا أنهم وحدهم “الفرقة الناجية”، ويُخرجون غيرهم من أهل السنة والجماعة من دائرة النجاة، مخالفين بذلك فهم أهل العلم، فقد قال الإمام عبد الله بن المبارك:

“إن صح الحديث في الفرقة الناجية، فإنها تشمل جماعة المسلمين ما داموا على السنة” (سير أعلام النبلاء 8/420).

أما هم، فيقصرون النجاة على جماعتهم، وجعلوا الدين حكرًا على فكرهم الضيق.

3. إسقاط آيات الكفر على أهل الإسلام

يستدل الخوارج بالآيات التي نزلت في الكفار، على المسلمين، كما فعل أسلافهم حين قالوا في عليّ رضي الله عنه:
“إن الحكم إلا لله” (الأنعام: 57).

فقال الإمام عليّ كرم الله وجهه: “كلمة حق أُريد بها باطل”
(رواه مسلم [1066]).

وهذا أصل من أصول الفتنة: أخذ النص بلا فهم، ولا تأصيل، ولا اعتبار لأسباب النزول أو مقاصد الشريعة.

4. الغرور بالعبادة والغفلة عن القلب

أخبر النبي ﷺ عن عبادتهم فقال: “تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقراءتكم مع قراءتهم” (رواه مسلم [1064])

لكنهم “لا يجاوز إيمانهم حناجرهم”، أي أن أعمالهم ظاهرية، تخلو من الفقه، والنية، ونور البصيرة.

وقد قال الحسن البصري رحمه الله:

“الخوارج صاموا حتى صار لونهم كالكركم، وقاموا الليل حتى انتفخت أقدامهم، ثم ضربوا في أعناق المسلمين” (البدع والنهي عنها لابن وضاح، ص 58).

❖ جذور الانحراف: الغرور، والجهل، وسوء الظن

إن فكر الخوارج لا يبدأ بالسلاح، بل يبدأ بالقلب، حين يغيب عنه نور العلم، ونور الرحمة، ونور الصحبة الصالحة، فيظن صاحبه أنه على الحق المطلق، ويُكفّر الناس، ويُفسّق الصالحين، ويفتري على العلماء.

وقد قال الإمام سفيان الثوري: “من أراد أن يعمل على رأيه فليتّهم نفسه أولًا” (الجامع لأخلاق الراوي 1/127).

❖ العلاج: العلم، والجماعة، والتزكية

لا دواء لهذا الداء إلا بـ: العلم الموروث عن رسول الله ﷺ من علماء الأمة الثقات،والانضواء تحت راية الجماعة، والتزكية القلبية التي تهذب النفس وتكسر الغرور.

قال الإمام الغزالي: “من لم يزكِّ نفسه أولًا، لم يؤمَن عليه الغلو والتكفير” (إحياء علوم الدين 3/35).

❖ الختام:

إنّ الخوارج لا يزالون يخرجون في كل زمن، وربما يحملون اسمًا جديدًا، أو شعارًا مختلفًا، لكنهم يُعرفون بسماتهم: الغلو، التكفير، إساءة الظن، الانعزال، والنقمة على الأمة.

فلنحذر منهم، ولنعلم أن الدين لا يُقام بالعنف، ولا بالتكفير، بل بالرحمة، والعلم، والصبر، والمجاهدة الشرعية الصحيحة.

نسأل الله أن يُظهر الحق، ويخذل الباطل، ويرزقنا نور البصيرة، وصحبة أهل الله، ومنهج الاعتدال، تحت راية سيدنا رسول الله ﷺ.