عربة الوجع.. حين تدهس الحياة جثث الأبرياء وتواصل السير بلا رجفة ضمير
6 يوليو، 2025
أخبار العالم الإسلامى
بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

في هذه الصورة التي تبكي الحجارة وتُشعل النار في ضمائر من بقي له قلب، نرى ما لم يكن في الحسبان. عربة خشبية يجرّها حمار هزيل، يتوسطها رجل غارق في التعب، يحمل أجسادًا بشرية مغطاة بالبطاطين البالية، ممددة فوق بعضها، كأنهم صناديق لا أرواح فيها… لا، بل إنهم بشر، كانوا يمشون، ويتكلمون، ويحلمون، لكنهم الآن مجرد أحمال على عربة لا تعرف الرحمة ولا الطريق.
كل جسد في هذه الصورة له قصة، وله بيت، وله أم كانت تنتظر عودته، وله أحلام لم تكتمل. لكن الواقع أقسى من الخيال، وقد طُوِيَت الصفحات دون استئذان، وذُبِحت الحكايات على قارعة الطريق، ونُقِلَت بدم بارد، لا سيارات إسعاف، لا تابوت، لا جنازة، لا حتى دعاء. وكأن الإنسان لم يعد يستحق حتى حرمة الميت، ولم يعد الموت يحرك ضميرًا في زمنٍ صار فيه الضحية سلعة إعلامية، والمأساة مشهدًا عابرًا يُستبدل في اليوم التالي بجريمة جديدة.
هذا المشهد ليس مجرد صورة، بل هو قصة أمة تُسلخ حيّة، أمة تركها العالم تنهشها أنياب الطغاة، تفتك بها قنابل الفسفور والطائرات المسيّرة، ويبيعها تجار السلاح والخرائط والمؤتمرات. ترى هذا الرجل الذي يقود العربة، تُدرك أن لا أحدًا معه، لا دولة، لا مجلس حقوق، لا صليب أحمر، لا هلال أبيض، لا حتى كاميرا تصرخ بصدق… وحده مع حيوانه الهزيل، ينقل أجساد أبناء وطنه، كأنها أكياس من القمح أو بقايا السوق.
تحت هذه البطاطين، قد تكون أمٌ كانت تحتضن أبناءها حين سقط الصاروخ، أو طفلٌ لم يتم عامه الأول، أو شابٌ كان يحلم بالهجرة، أو عجوزٌ ظل يدعو أن يموت في سلام، فإذا به يُسحب بعد موته مهانًا.
هذه العربة لا تنقل الجثث فقط، بل تنقل شهادة إفلاس العالم. إفلاس في الإنسانية، إفلاس في الرحمة، إفلاس في العدالة، إفلاس في الحدّ الأدنى من الاحترام للحياة والموت.
وإن كانت هذه العربة البائسة تحمل أجسادًا هامدة، فإن غزة اليوم كلها تتحرك كعربة للموت.
غزة الجريحة، غزة التي تحولت إلى رماد، غزة التي تسكنها رائحة الدم والبارود، وتغسل شوارعها دماء الأبرياء قبل أن يجف الدمع عن وجوه الأطفال. غزة التي تُباد على الهواء، ويُذبح أهلها بدم بارد، والعالم يصفّق أو يصمت أو يبرر.
أي قلب لم ينفطر حين رأى الأطفال يُنتشلون من تحت الأنقاض وهم ممزقون؟
أي ضمير لم يرتعد أمام أم تحتضن جثة طفلها المتفحم؟
أي عقل بشري يمكنه تبرير إبادة مدينة كاملة، وتدمير كل شيء فيها من مستشفيات ومدارس ومخابز ومآذن؟
إن ما يحدث في غزة ليس حربًا، بل مجزرة جماعية، إبادة صريحة، تُنفّذها آلة قتل صهيونية لا ترحم، وتتواطأ معها كل قوى الشر على وجه الأرض. الطائرات لا تفرّق بين المقاتلين والأطفال، القنابل لا ترحم المرضى ولا المسنين، والعقوبات لا تترك مجالًا للغذاء أو الدواء.
شعب ضعيف، محاصر منذ سنين، يُمنع عنه الماء والدواء والوقود، يُقتل جائعًا، ويُدفن مريضًا، ويُحاصر حيًّا وميتًا. ومع ذلك، لا يرفع الراية البيضاء، بل يرفع الأكف إلى السماء، ويمضي في شموخ الشهداء، وكأنه يقول لكل الطغاة: نحن نُقتل… نعم، لكننا لا نركع.
غزة التي لا تعرف الخضوع، تُقاتل بصدور عارية، وبأجساد أنهكها الجوع والحصار، في وجه جيوش مدججة بالتكنولوجيا والذخائر والتحالفات. غزة التي تنام على رائحة الموت وتصحو على ركام البيوت، لا تجد في الأرض نصيرًا، لكن أهلها وجدوا في الله ملاذهم، وفي الصبر سلاحهم، وفي الدعاء طوق نجاتهم.
أليس عارًا أن تُترك غزة وحدها؟
أليس خزيًا أن يتفرج العرب والعجم على شعب يُفنى بالكامل؟
أين الإنسانية من مشهد أم تنام بين أنقاض بيتها المهدوم وتحتضن بقايا أطفالها؟
أين العدل من مشفى يُقصف وهو يعج بالجرحى؟
أين العالم من غزة التي تتحول كل ساعة إلى مقبرة جماعية؟
إن هذا المشهد ليس فقط عن جثث في عربة خشبية… بل عن غزة كلها، عن شعب لا يجد من يواسيه، ولا من يمنحه الأمان. عن أمة بكاملها تُباد… ثم تُسكت.
لكن غزة، برغم الألم، تقول للعالم كل يوم: “نُقتل، نعم… ولكننا لن ننكسر.”
وغزة، برغم القهر، لا تزال تلد أطفالًا باسمين، يضحكون في وجه الدمار، وكأنهم يعرفون أن النصر قد كُتب لهم، وإن تأخّر.
وهذه العربة التي تجرها الدابة الهزيلة، وتحمل أجسادًا بشرية مغسولة بالتراب، ليست مشهدًا عابرًا من بلد فقير، بل وثيقة إدانة لكل العالم.
إنها إعلان صريح أن الحضارة سقطت، وأن الإنسان لم يعد يُحسب له حساب.
إنها رمز لعصرٍ ماتت فيه الرحمة، وخُدّرت فيه الضمائر، وتحوّل فيه القتل إلى وجهة نظر، والضحايا إلى إحصائيات تُنسى مع نشرة المساء.
وإن لم تُحرّك هذه الصورة قلوب البشر، فلا حاجة للبشرية أن تستمر.
وإن لم نغضب من أجل غزة، من أجل الأطفال، من أجل الأمهات، من أجل المظلومين، فنحن أموات بأجساد تمشي.
وإن تركنا القتلة يروّجون لانتصاراتهم بينما يدفن شعب بأكمله على عربة خشبية… فإننا شهود زور على زمن كافر بالقيم.
فلتعلموا أن الجريمة لا تسقط بالصمت، وأن التاريخ لا يرحم، وأن الله فوق الجميع، يرى ويسمع ويعلم.
وسيأتي يومٌ تُقلب فيه العربة، ويعلو صوت الحق، وتنتصر الدماء على السكاكين.
أما الآن، فلنكتب، ونبكي، ونشهد، ونُقسم… أن لا ننسى.