
خطبة بعنوان ( قطوف من حياة سيدنا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن )
للدكتور : محمد جاد قحيف
الحمد لله مقدر الأيام والشهور ، ومصرف الأعوام والدهور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفور الشكور ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ﷺ بعثه الحق سبحانه بالهداية والنور اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور ..وبعد:
فيا أيها الإخوة الكرام حديثنا اليوم عن شابٍ عَطَّرتْ سِيرتُه الكُتبَ، ومَلأتْ أخبارُه مجالسَ العِلْمِ والذِّكرِ، هو شابٌ استثمرَ شبابَه فيما يَنفعُه فعادَ نفعُه عليه بالذِّكرِ الطِّيبِ، والرِّفعةِ والمَجْدِ، وعلى أُمَّتِهِ بما تَرَكَ مِن عِلْمٍ غزيرٍ تَنهلُ الأُمةُ منه منذُ قرون ولم يَنفَد ..
فيا ترى من يكون هذا الشاب الصغير الذي توفي رسول الله ولما يزل في الثالثة عشرة من عمره، ثم اكتسب الأمجاد من أقطارها وديارها؟!!
ويا ترى من يكون هذا الشاب الصغير الذي توفي رسول الله وهو يحمل معه هذا العمر القليل، لكنه ظل يسمع الأجيال كلَّها أخبار نبيه -عليه الصلاة والسلام؟!!..
ومن يكون هذا الشاب الصغير الذي روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرابة ألفيْ حديث!! إنه عالم الأمة وبحرها وفقيهها ابن عم النبي ﷺ الذي تربى في بيت النبوة ، إنه سيدنا وابن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ..
حدّث عنه أحد أصحابه ومعاصريه فقال: “لقد رأيت من ابن عباس مجلسًا، لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر.. رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب، فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءًا، فتوضأ وجلس وقال: اخرج إليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله، فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤوا البيت، فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم وزاد. ثم قال لهم: إخوانكم. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم. ثم قال لي: اخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام. فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤوا البيت، فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم وزادهم.. ثم قال: إخوانكم. فخرجوا. ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤوا البيت، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم. ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن العربية، والشعر. فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم”..
شهدت له كل الثغورِ نواطقًا *** حتى ثغورِ الحاسدين شهودُ
مرحبًا بابن عباس، مرحبًا بالغلام السني، مرحبًا بالرجل العبقري، مرحبًا بابن عباس ملهم الشباب في الرعيل الأول، وفي كل الحقب
كل الرجال أحاديثٌ بلا سند *** إلا حديثك عنا يا ابن عباس ..
ومما يجدر الإشارة إليه أن سيدنا عبد الله بن عباس لم ينل هذه المنزلة ولم تكن له هذه المكانة لأنه ابن عم رسول الله ﷺ بل لأنه كان أهلا لهذه المكانة لإخلاصه لهذا الدين ..
العنصر الأول : التعريف بسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وبعض مناقبه..
هو سيدنا وابن سيدنا عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ، أبو العباس ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أُمُّه : لبابة بنت الحارث وينتهي نسبها إلى عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالي ..
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى *** نورًا ومن فلق الصباح عمودًا..
وكان سيدنا عبد الله بن عباس يسمى : الحبر والبحر ؛ لكثرة علمه ، وحدة فهمه . فهو حبر الأمة وفقيهها …
ولد وبنو هاشم بالشّعب قبل الهجرة بثلاث . وقيل بخمس . والأول أثبت ؛ وهو يقارب ما في “الصحيحين” عنه : ” أقبلت راكبا على حمار أتان ، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار ، فمررت بين يدي بعض الصف ، وأرسلت الأتان ترتع ، فدخلت في الصف ، فلم ينكر ذلك علي ” (متفق عليه)..
وفي “صحيح الإمام البخاري رضي الله عنه” عن سعيد بن جبير ، قال : سئل ابن عباس : مثل من أنت حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ” أنا يومئذ مختون ” قال : وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك ..
وفي “مسند أحمد” (3125) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال : ” جمعت المحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا ابن عشر حجج “، قال : فقلت له : وما المحكم ؟ قال : المفصل “.
قال الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين..
دعاء النبي ﷺ لابن عمه الله بن عباس رضي الله عنه..
دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التفسير ، فقال : اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ (متفق عليه)..
ولا شك أن بركات دعاء النبي ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما بأن يعلمه الحكمة ويفقهه في الدين ويعلمه التفسير ؛ كان له الأثر الأكبر في حياة ابن عباس رضي الله عنهما ، وفي تكوين شخصيته الإيمانية والعلمية والأخلاقية ، وفي حرصه على طلب العلم وفهمه فهمًا صحيحًا .
كما دعا الله بأنه يعلمه الحكمة ، فعن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ” ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره ، وقال : اللهم علمه الحكمة والحكمة : الإصابة في غير النبوة . أخرجه البخاري (3756).
وكان عمر بن الخطاب يدنيه ويسأله ، ويدخله مع مشيخة أهل بدر ، ليريهم من علمه وفهمه.
وكان له الجواب الحاضر ، والوجه الناضر ، صبيح الوجه ، له وفرة مخضوبة بالحناء ، أبيض طويل مشرب صفرة ، جسيم وسيم ، علمه غزير ، وخبره كثير ، يصدر الجاهل عن علمه وحكمته يفيضان ، والجائع عن خبزه ومائدته شبعان !
مات رضي الله عنه بالطائف سنة ثمان وستين . واختلفوا في سنِّه ، فقيل : ابن إحدى وسبعين . وقيل ابن اثنتين . وقيل ابن أربع . والأوّل هو القويّ .
وينظر لمعرفة المزيد عن مناقبه وفضائله : “معرفة الصحابة” لأبي نعيم (3/ 1699)، و”الإصابة” لابن حجر (4 /122)..
العنصر الثاني:حرص سيدنا عبد الله بن عباس على طلب العلم
كان أمةً وحده، كان خزانة علم وحده، كانه آلة حديثة جمع فيها صنوف العلوم والفهوم ..
كان معرِضَ كتاب وحده!! كان علمُه أصدق إنباءً من الكتب، في حده الحد بين الجد واللعب..
حقٌ على أمة محمد بن عبد الله أن يُصدَّر لها ذاك العالِم الخِضْرِم الفياحُ، فرات ابن الفرات..
لقد أدرك سيدنا عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- منذ نعومة أظفاره أنه ليس صغيرًا على طلب العلم، فالمعالي لا تعترف بالأعمار..
هذا الشاب الألمعي خطف الأنظار باكرًا،لم يدع للناس أن تلويَ أعناقَها لغيره..
لقد استوى على عرش العلم وحده، ولم يُفسح لغيره أن يكون ثاني اثنين معه فكان فريدا متميزا عن كثير من رفاقه وممن سبقوه سنا!..
طلبَ العلم بين يدي رسول الله، ولمّا يبلغ الحلم، لكنه قد بلغ الرشد..
ولم يقعد ابن عباس رضي الله عنهما متكلاً على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له ، بل كان يجتهد في جمع العلم وتحصيله ، وفي فهم دين الله عز وجل ، بكل ما أوتي من قوة ونشاط وصبر وعزيمة .
فبدأ بملازمة النبي صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره ، حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان حريصًا على طلب العلم وملازمة رسول الله ﷺ ، وكان ينتظر أية فرصة للاقتراب من رسول الله والأخذ عنه..
ليس بالجسم ساد كل عظيم *** بل بقلب كأنه الطود ينهدَّ ..
لقد كان -رضي الله تعالى عنه- يحب أن يكون رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليقول له رسول الله: “يا غلام”، فيقول: لبيك يا رسول الله، فيقول له رسول الله: “إني أعملك كلمات”. فيحفظها ابن عباس ما يخرم منها حرفًا واحدًا ..
كان في الحادية عشرة من عمره وهو يتلقف هذه الكلماتِ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيحفظها حفظ النابغين..
إن صغر ابن عباس -رضي الله عنه- لم يمنعه من التفقه والتعلم في وقت باكر، ولا شد العزيمة وقت الصغر، فهو يوقن -رضي الله عنه- أن قيمة كل امرئ ما يحسنه، لا بما يجمع من أعمار ..
لقد كان طموحه و همته العالية لا حد لها ، وقد رسم ابن عباسٍ هذه النظرية من حياة رسول الله إلى مماته، وكأنه يقول لنفسه ..
ولم أر في عيوب الناس عيبًا *** كنقص القادرين على التمام..
كان -رضي الله عنه- يعلم أن حد الوقت أمضى من حد السيف، وأن الترهات هي جزء من الفواحش الظاهرة في حياة الإنسان ..
سئل ابن عباس يومًا: كيف أصبت هذا العلم؟! فأجاب: “بلسان سؤول، وقلب عقول”..
وكان ابن عباس لا يرى غضاضة -وهو ابن عم رسول الله ومن نِتاج أطيب بيت في بني هاشم- أن يجلس على عتبات الصحابة، يأخذُ منهم رواية الحديث عن رسول الله؛ إذ لا ينال العلم مستكبر، ولا يرى غضاضة أن تلفحه حرُّ الظهيرة ورمضاءُ الهواجر في سبيل العلم
عبد الله بن عباس، لو لم نأخذ إلا هذا الموقف من سيرته لكفانا وقوفًا على هذه العظات والعبر في سيرته الزكية الذكية..
و يحكى سيدنا عبد الله بن عباس عن كيفية حرصه لطلب العلم فيقول : ” لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَثِيرٌ !
قَالَ : الْعَجَبُ لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ ، وَفِي الْأَرْضِ مَنْ تَرَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ؟..
قَالَ: فَتَرَكَ ذَلِكَ ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ ، وَتَتَبُّعِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ كُنْتُ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، فَأَجِدُهُ قَائِلًا : ” فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تَسْفِي الرِّيَاحُ فِي وَجْهِي حَتَّى يَخْرُجَ ” .
فَيَقُولُ: مَا جَاءَ بِكَ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ؟
فَأَقُولُ : ” بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ “.
فَيَقُولُ : فَهَلَّا بَعَثْتَ إِلَيَّ حَتَّى آتِيَكَ ، فَأَقُولُ : ” أَنَا كُنْتُ أَحَقَّ أَنْ آتِيَكَ ” ، فَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَمُرُّ بِي بَعْدُ، وَالنَّاسُ يَسْأَلُونِي فَيَقُولُ : أَنْتَ كُنْتَ أَعْقَلَ مِنِّي” ..
أخرجه الإمام الحاكم في “المستدرك” (363) وصححه ووافقه الذهبي ..
ولما فتحت البلاد آثر ابن عباس من أجل العلم ظمأ الهواجر في دروب المدينة ومسالكها على الظلال الوارفة في بساتين الشام وسواد العراق وشطآن النيل ودجلة والفرات.
قال رضي الله عنه: لما فتحت المدائن أقبل الناس على الدنيا، وأقبلت على عمر رضي الله عنه.
يعني: كي يتعلم منه ويستفيد من صحبته.
يقول الشاعر: لكل بني الدنيا مراد ومقصد وإن مرادي صحة وفراغ لأبلغ في علم الشريعة مبلغا يكون به لي للجنان بلاغ ..
وفي مثل هذا فلينافس أولو النهى وحسبي من الدنيا الغرور بلاغ ..
فما الفوز إلا في نعيم مؤبد به العيش رغد والشراب يساغ ..
ويقول -أيضا- سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه عن دأبه في طلب العلم: كنت آتي باب أبي بن كعب رضي الله عنه وهو نائم، فأقبل على بابه، ولو علم بمكاني لأحب أن يوقظ لي لمكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكني أكره أن أمله..
وقال -أيضا- ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل في القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدا إلا سر بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أبي بن كعب يوما -وكان من الراسخين في العلم- عما نزل من القرآن في المدينة فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة، وسائرها بمكة (المكتبة الإلكترونية الشاملة)..
ويقول سيدنا عبد الله بن عباس عن نفسه: “إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“.
ألمعيٌّ لهُ بديهة سؤلٍ *** تطلب الأمر منْ وراء الغمام ..
ويصف سعدُ بن أبي وقاص ابنَ عباس -رضي الله تعالى عنه- فيقول: “ما رأيت أحدًا أحضر فهمًا، ولا أكبر لبًّا، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حلمًا من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله”.
وآخر هذه ومضة من نبراس ابن عباس حيث يقول: “إني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعًا علموا مثل الذي أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له، وما لي عنده قضيّة، وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين، فأفرح به، وما لي بتلك الأرض سائمة”..
وأيم الله لو أنا أقنعنا شبابنا الصغار أنهم رجال بعقولهم وأفهامهم، لأخرجنا أمثال ابن عباس وابن عباس! ..و كان رضي الله عنه إذا سئل: كَيْفَ أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ : ” بِلِسَانٍ سَؤُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ”.
أخرجه الإمام أحمد في “فضائل الصحابة” (2/ 970)..
ومن هنا صدقت في ابن عباس رضي الله عنهما دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتاه الله الحكمة؛ وهي الإصابة، وإتقان الأمور، ووضع الشيء في محله .
وآتاه الله الفقه والفهم في الدين ، وعلمه تفسير القرآن وتأويله ، حتى كان ترجمان القرآن ، وحبر الأمة .
ولا شك أن من أوتي العلم والفهم والحكمة ؛ فإن ذلك سيؤثر في حياته كلها ، إيمانًا ، وعبادة ، وخشية ، وخلقًا ، وسمتا ، وذكاءً ، وحكمة ، ونبلاً ، وسداد رأي !
ولذلك كان عمر رضي الله عنه يدخل ابن عباس رضي الله عنهما مع أشياخ بدر ويستشيره ويسأله أمامهم ليريهم علمه وحكمته وفهمه للدين .
فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : ” إنَّه ممَن قدْ عَلِمْتُمْ”.
قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم قال : وما رُئِيتُهُ دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ” ما تقولون في : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} حتى ختم السورة ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وقال بعضهم : لا ندري ، أو لم يقل بعضهم شيئا ، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك تقول؟
قلت: لا ، قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له : إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة ، فذاك علامة أجلك : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . قال عمر : ” ما أعلم منها إلا ما تعلم ” .
أخرجه البخاري (4294).
وعَنْ طَاوُسٍ قَالَ : ” وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ تَعْظِيمًا لِحُرُمَاتِ اللَّهِ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاللَّهِ لَوْ أَشَاءُ إِذَا ذَكَرْتُهُ أَنْ أَبْكِيَ لَبَكَيْتُ ” .
أخرجه الإمام أحمد في “فضائل الصحابة” (2/ 950) ..
جلس ابن عباس في موسم الحج يفسر للناس سورة البقرة، فقال أحدهم: لو سمِع هذا اليهودُ والنصارى لأسلموا، وكان المنادي ينادي: من أراد السؤال عن الفقه فليدخل، فإذا انقضوا نادى المنادي: من أراد السؤال عن القرآن فليدخل، فإذا انقضوا نادى المنادي: من أراد السؤال عن الشعر وأيام العرب فليدخل.
العنصر الثالث : صور ومواقف
من صور حياة الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن عباس كلمة ما قالها أحد من أهل العلم قبله، ولا يستطيع أحد بعده أن يقولها، لما جاء إلى تفسير قول الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 7]؛ قال ابن عباس: “أنا من الراسخين في العلم”..
ومن أشهر المواقف أيضا التي يكثر الاستدلال بها كان سيدنا عبد الله بن عباس مع سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنهما ، فأراد زيد أن يركب فرسه، فأمسك عبد الله فأمسك بزِمام الدابة يقودها لزيد بن ثابت كاتب القرآن الذي بين أيدينا، فقال زيد: “دَعْ هذا يا بن عم رسول الله، فقال ابن عباس: هكذا أُمِرْنا أن نفعل بعلمائنا، فأخذ زيد يدَ ابن عباس فقبَّلها وقال: هكذا أُمِرْنا أن نفعل بأهل بيت نبينا ! “..
وكان ابن عباس كريمًا جوادًا، وذات مرة نزل أبو أيوب الأنصاري البصرة حينما كان ابن عباس أميرًا عليها، فأخذه ابن عباس إلى داره وقال له: لأصنعن بك كما صنعت مع رسول الله (فاستضافه ابن عباس خير ضيافة).
وخلا عمر بن الخطاب يوما ففكر كيف تختلف الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد، فدعا ابن عباس فسأله عن ذلك فقال ابن عباس: أنزل القرآن علينا فقرأناه وعلمناه فيما نزل، وسيكون بعدنا أقوام يقرأونه ولا يدرون فيما نزل فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان ذلك اختلفوا، فزبره عمر، ثم إنه أرسل إليه فقال: أعد علي قولك، فأعاده فعرف عمر صوابه وأعجبه.
وإليك موقفاً من مواقف حكمته، وسرعة بديهته، وبلاغته:
حواره ومناظرته للخوارج ..
لما اعتزل بعض أصحاب علي رضي الله عنه في نزاعه مع معاوية رضي الله عنه، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه؟: ائذن لي، يا أمير المؤمنين، أن آتي القوم وأكلمهم.
فقال إني أتخوف عليك منهم.
فقال: كلا إن شاء الله.
ثم دخل عليهم فلم ير قوما قط أشد اجتهادا منهم في العبادة.
فقالوا: مرحبا بك يا بن عباس.. ما جاء بك؟!
فقال: جئت أحدثكم.
فقال بعضهم: لا تحدثوه.
وقال بعضهم: قل نسمع منك.
فقال: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله وزوج ابنته، وأول من آمن بت ؟!
قالوا ننقم عليه ثلاثة أمور.
قال وما هي ؟!
قالوا أولها: أنه حكم الرجال في دين الله.
وثانيها: أنه قاتل في صفين والجمل ولم يأخذ غنائم ولا سبايا.
وثالثها: أنه محى عن نفسه لقب أمير المؤمنين مع أن المسلمين قد بايعوه وأمروه.
فقال: أرأيتم أن أسمعتكم من كتاب الله، وحدثتكم من حديث رسول الله ما لا تنكرونه، أفترجعون عما أنتم فيه؟
قالوا نعم.
قال أما قولكم: إنه حكم الرجال في دين الله، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم)).
أنشدكم الله، أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وصلاح ذات بينهم أحق أم حكمهم في أرنب ثمنها ربع درهم؟!
فقالوا: بل في حقن دماء المسلمين وصلاح ذات بينهم.
فقال: أخرجنا من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم: إن علياً قاتل ولم يسب كما سبى رسول الله.
أفكنتم تريدون أن تسبوا أمكم عائشة وتستحلونها كما تستحل السبايا؟!
فان قلتم: نعم، فقد كفرتم.
وان قلتم: إنها ليست بأمكم كفرتم أيضا، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم)).
فاختاروا لأنفسكم ما شئتم.
ثم قال: أخرجنا من هذه أيضا؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم: إن علياً قد محى عن نفسه لقب أمير المؤمنين، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلب من المشركين يوم الحديبية أن يكتبوا في الصلح الذي عقده معهم ((هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)) قالوا: لو كنا نؤمن أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: ((محمد بن عبد الله)) فنزل عند طلبهم وهو يقول: (والله إني لرسول الله وان كذبتموني).
فهل خرجنا من هذه؟
فقالوا: نعم.
وكان من ثمرة هذا اللقاء، وما أظهره فيه سيدنا عبد الله بن عباس من حكمة بالغة وحجة دامغة أن عاد منهم عشرون ألفا إلى صفوف علي، الله أكبر ..
وأصر أربعة آلاف على خصومتهم له عنادا وإعراضا عن الحق..
وفاته :
عاش ابن عباس يملأ الدنيا علمًا وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه ، ومكث ابن عباس في مكَّةَ بعد رجوعه من البصرة، وأصابه العمى في آخر حياته، ثم اختلف مع ابن الزبير الأمير على مكة وما حولها، فخرج إلى الطائف وأقام بها، حتى أدركه الأجل في الطائف ومات بها، ورَوَتْ كتب التاريخ حادثةً تكاد تكون من الغرائب، ولولا تواتُرُها في كتب التاريخ لَما صدَّقها العقل، قالوا: لما حُمِلَ نعش ابن عباس إلى قبره، ووضع في لحده، فإذا طائر من السماء يأتي فيدخل في أكفان ابن عباس ولم يخرج منها، دخل في أكفان الرجل الذي فسَّر كتاب الله آية آية، ولما دُفِنَ كانت رائحة المسك تفوح من تراب قبره، حتى صار الناس يأتون ويأخذون من ترابه، حتى أمر أمير الطائف يومها بوضع الحراس على القبر يمنعون الناس من ذلك، وبقيت رائحة المسك شهرًا وهي تفوح من قبره رضي الله عنه..
وذلك في عامه الحادي والسبعين، دُعي إلى لقاء رب عظيم..
وختاماً:
أيها الإخوة المسلمون، هذه لمحات من سيرة صاحب القرآن وإمام المفسرين، ومثال عظيم يذكره الآباء لأبنائهم، وقدوة لجميع المسلمين في حفظ القرآن وتعلمه وتعليمه، واسم راسخ يقتدي به الصالحون ويتتبعون أخباره ومواقفه، خيرٌ ألف مرة من كل التفاهات التي تملأ الفضاء اليوم، ابن عباس وأمثاله هم قدوتنا، وهم من نتابع أخبارهم، وهم من يجب علينا معرفة سيرتهم وروايتها وبثها بين الناس، لكيلا نغرق في التفاهة، ولا يحاصرنا العدم، ويلبسنا التمزُّق.
يقول مسروق : (كنت إذا رأيت ابن عباس قلت أجمل الناس ، فإذا تحدث قلت أعلم الناس ، فإذا نطق قلت أفصح الناس)..
لقد كان ابن عباس يرسل رسائله العظيمة للشباب قائلاً لهم:
إن الكبير هو الكبير بعقله *** ليس الكبير بعمره وعظامه ..
ما هذا النور الذي نراه في حياة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وفي سيرته!! فلم نستطع غض أبصارنا عنه..
ومن رسائل سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه رسالة لطيفة إلى كل الأجيال وخاصة هذا الجيل من الشباب : لا تجعلوا أحدًا يحول بينكم وبين أمنياتكم بالسخرية الزائفة، والهزء القاتل، فكم من موهبة تكسرت على أعتاب تثبيط!!
لقد كان ابن عباس يسابق الزمان ، فلا يضع لحظات حياته من غير تحصيل العلم النافع ، لم يكن مشغولاً بتسريحة شعره، أو بتدليك أعضائه، أو بالنظر في معاطفه، ولم يكن مشغولاً -رضي الله عنه- بغسيل سيارته، وتلميع ظهرها، ومفاخرة الأقران بنوعها وثمنها ..
احبتي في الله هذا غيض من فيض ، ونقطة في بحر ، ونبذة يسيرة عن هذا الحبر الإمام ، وإلا فمناقبه وفضائله كثيرة ، ومواقفه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لا يسع المقام لذكرها ..
اللهم اجمعنا بصحابة نبيك أجمعين، وارزقنا مرافقتهم مع نبيك في جنات النعيم، وارض اللهم عن ابن عباس، وارض اللهم عن سيدنا عبد الله بن عباس، وصلّ اللهم على ابن عمه، سيدنا رسول الله ﷺ ، واحشرنا في زمرتهم وارزقنا شفاعتهم يارب العالمين