الزوايا الصوفية في العالم الإسلامي، مدارس للروح والعقل شوهها التكفير وقزّمتها التغريبية

بقلم الكاتب: محمد نجيب نبهان

من يظنّ أن الزوايا الصوفية كانت عبر تاريخنا الإسلامي مجرد خلوات للذكر والدروشة والانسحاب من الواقع، لا يرى من الحقيقة إلا ظلّها المرتعش، ولا يسمع من التاريخ إلا أصداء ما سمحت به سلطات القمع، أو دوائر الاستشراق، أو أنظمة الكراهية أن يُنقل عنه. لقد ظُلمت الزوايا ثلاثًا: حين سكت عنها التاريخ الرسمي، وحين شوهها خطاب الكراهية، وحين طمستها الحداثة المستوردة دون وعي أو تفهّم.

الزاوية الصوفية: مؤسسة حرّة عابرة للطائفة والسلطة والحدود

لم تكن الزوايا، في أي من بقاع الإسلام، ترفًا روحانيًا معزولًا، ولا ساحات لممارسة طقوس غرائبية كما أراد أعداؤها أن يصوّروها، بل كانت معاهد للتربية الشاملة، تنشّئ الروح وتبني الفكر وتربّي الذوق وتعلّم الفقه وتفتح باب الحياة أمام المؤمن، لا باعتباره تابعًا مكسور الإرادة، بل خليفةً لله في أرضه.

في الزوايا كان المسلم يجد توازنه بين ظاهر الشريعة وباطن الحقيقة. لم يكن يُختبر في مدى التزامه بحدود الطاعة، بل في صفاء قلبه وصدق نيته وتوقه إلى المحبة والعرفان. وقد امتدت هذه الروح من أزقة حلب القديمة إلى قونية، ومن صحارى موريتانيا إلى أدغال نيجيريا، ومن رمال الحجاز قبل أن تجف فيها أرواح التصوف، إلى سهول الهند وجبال الأناضول.

كانت الزوايا مؤسسات شعبية لا تخضع لممول خارجي، ولا لمرجعية سياسية، بل تنمو من قلب المجتمع، وتتغذى من حب الناس، وتسكن في ذاكرة المدن. فيها وُلد شعر الرومي، وتربّى على أدبها الجيلي وابن الفارض، وتخرّج منها الكواكبي والسرندي وأحمد زروق، وصدحت فيها مواويل شادي جميل وصباح فخري في حضرة مشايخ ألبسوهم بردة الذوق والتسامي، لا عمامة الفرقة والإقصاء.

الزاوية ومشروع الإنسان الكامل

الزاوية الصوفية ليست انعزالًا عن العالم، بل هي دخول في صلبه، بتسليمٍ واعٍ إلى الله، لا استسلامٍ مذلٍ للطغيان. لم تكن الزاوية تصنع الإنسان بوصفه عبدًا للنظام، بل عبدًا لله وحده، حرًا في عقله، مستقيمًا في ذوقه، نبيلًا في سلوكه. لم تَربِ المريد ليكون تابعًا، بل مُصلحًا، ولم تُلقّنه الرعب من النار بل علّمته الشوق إلى النور.

الزاوية ليست بديلاً عن المسجد، بل امتدادٌ له في العمق. وليست نقيضًا للمدرسة، بل مرآة لها، تُعلّم بالحب، وتُهذّب بالحضور، وتربّي بالقدوة. ومن عمق الزاوية خرج الفقيه، والفيلسوف، والفنان، والمجاهد، والشاعر، والمفكر، لا يحمله عنوان طائفي، ولا ولاء حزبي، بل شوقٌ إلى الله، وحبٌّ للحياة.

شواهد من العالم الإسلامي

في الجزائر مثلًا، أنشأ عبد القادر الجزائري زاوية أصبحت مركزًا للعلم والجهاد معًا، وكان يخطب في مريديه عن توحيد الله، ثم يقودهم إلى ميدان المقاومة. وفي المغرب، ساهمت الزوايا مثل الزاوية الناصرية والزاوية الدرقاوية في حماية اللغة والفقه والتراث، كما في التصدي للاستعمار الفرنسي.

وفي تركيا العثمانية، كانت الزوايا الملجأ للمثقفين والفنانين، خصوصًا من أتباع الطريقة المولوية، حيث امتزج الذكر بالموسيقى، والفقه بالحكمة، فخرج من هناك شعراء كالسلطان سليمان القانوني نفسه، وفلاسفة كشمس تبريزي، وفنانون تدرّبوا على رقصة السمو، لا لعرضٍ مسرحي بل لارتقاء روحي.

وفي الهند، كانت الزاوية النقشبندية والجشتية، منارات ضد المد الاستعماري البريطاني، وأنتجت مجددين كبارًا مثل شاه ولي الله الدهلوي وأحمد السرهندي، ممن أرادوا أن يصالحوا بين العقل والنقل، وبين الحديث والتصوف، وبين الشريعة والحكمة.

أما في أفريقيا، فقد كانت الزوايا النيجيرية والسنغالية والمالية تخرّج الدعاة والفقهاء والمقاومين، ومن هناك خرج القائد الصوفي الثائر عمر الفوتي، الذي هزم الفرنسيين في مالي، وهو يتلو الأذكار لا الهتافات، ويحمل المصحف بيده اليسرى والسيف في اليمنى.

من ذا الذي خاف من الزاوية؟

حين ننظر في عيون التاريخ نرى أن الزوايا كانت تُرعب السلطان المستبد، كما تُزعج المفكر الغربي المبهور بماديته، وتؤرق السلفيّ الذي لا يرى الدين إلا نارًا وجهادًا. ولهذا تلاقت خناجر الوهابية مع مطارق العلمانية التغريبية في هدفٍ واحد: تشويه الزوايا، ومسخ صورتها، وتحويلها إلى كاريكاتير غبيّ عن الدراويش.

فالوهابية، التي ورثت خطاب التكفير، خافت من الزوايا لأنها علّمت الناس أن يكونوا متدينين دون أن يكونوا غاضبين، وأن يحبوا الله دون أن يكرهوا العالم، وأن يكونوا مؤمنين دون أن يُغلقوا عقولهم. ولهذا شنّ محمد بن عبد الوهاب حملته ضدها، وهدم القباب، وحرّق المخطوطات، وأفتى بكفر أهلها، ثم جاء أتباعه فأكملوا المشروع: قطعوا الأشجار التي كانت يُجلس تحتها الفقراء يذكرون الله، وهدموا المزارات، واعتقلوا المنشدين، وصادروا التراث الصوفي بأكمله لصالح مشروع صحراوي لا قلب فيه.

أما العلمانية التغريبية، فقد رأت في الزوايا رمزًا لتدين شعبي لا يخضع لسلطة الدولة الحديثة، ولا يسير ضمن خطط التحديث القسري. فاتهمتها بالرجعية، وسخرت من مشايخها، واحتقرت أدبها، وحاولت استبدالها بمدارس نمطية لا علاقة لها بخصوصية الأمة. وهكذا، اجتمع أعداء الأمس على محاربة نورٍ واحد، هو الزاوية.

الزاوية في حلب والقاهرة: شهادتان من التاريخ

في حلب، كانت الزوايا تنتشر في كل حيّ، من زاوية الشيخ النبهان إلى زاوية الكردي، وكانت تجمع المسلم والمسيحي والكردي والعربي، تُدرّس الذكر، وتُعلم الموشحات، وتخرج الفقهاء والشعراء، وتبني وعيًا جمعيًا حرًا. وقد تخرّج فيها عبد الرحمن الكواكبي، المفكر الذي كتب “طبائع الاستبداد”، لا بوصفه منظرًا سياسيًا، بل متصوفًا يرى أن الطغيان هو الظل المظلم للانفصال عن الله.

وفي القاهرة، كان الفقهاء يدرّسون في الأزهر نهارًا، ويجلسون في الزوايا ليلًا للذكر والمناجاة. من زاوية الشاذلي إلى زاوية الدسوقي، وُلد الفكر الجامع بين النص والذوق، بين الاجتهاد والتسليم، وخرج منها علماء تركوا أثرًا لا يُمحى، أمثال الإمام الشعراني، والشيخ الدردير، وحتى حسن البنا في بداياته كان متأثرًا بهذا الوسط التربوي الصوفي.

مشروعنا: توثيق الزوايا… استعادة الذاكرة الروحية

من هنا، نطلق اليوم مشروعًا ثقافيًا توثيقيًا شاملًا، عنوانه:

“منارات الروح: توثيق الزوايا الصوفية في العالم الإسلامي”

مشروع يسعى لجمع الذاكرة الروحية من الحيطان المتصدعة، والمكتبات المنسية، والقصائد المجهولة، والدفوف الصامتة. سننقّب عن أسماء شيوخ طمرهم التاريخ، وسنُعيد بعث قصائدهم، وتوثيق طقوسهم، ودراسة مدارسهم، ومقارنة طرقهم، وإبراز الأثر الحضاري الهائل الذي لعبته الزوايا في صياغة الشخصية الإسلامية الجامعة.

الهدف ليس فقط أرشفة التاريخ، بل تجديد صلته بالإنسان الحديث: أن يرى الطالب في الزاوية نموذجًا للتعليم البديل، وأن يجد الفنان فيها جذوره، وأن يستلهم الثائر منها الشجاعة، وأن يكتشف العالم فيها توازنًا روحيًا بديعًا، قادرًا على الوقوف في وجه كل مشاريع المسخ والتجويف والاستئصال.

فما دامت الروح لا تزال تتوق، والعقل لا يزال يسأل، والضمير لا يزال يبحث عن النور، فإن الزاوية لم تمت. إنها حيّة… بكم، وبنا، وبمن سيأتي بعدنا.