الهجرة .. ميلاد الإنسانية 2
29 يونيو، 2025
قبس من أنوار النبوة

بقلم فضيلة الشيخ : يوسف محمد السعداوى
من علماء الأزهر والأوقاف
اللقاء الثاني: بزوغ النور وبداية الملحمة
على حين غفلة من الناس والدنيا، يظهر الطهر مُجسدًا في إنسان جمع شمائل الرقي والأخلاق، تفرد عن محيطه بفطرة لم تدنسها أرجاس المكان، ولا هلاوس الشيطان التي لا تكاد تترك عقل أيٍّ ممن حوله إلا وقد استحوذت عليه، وأخذ الشيطان بنواصيهم يُسجدهم لحجارة لا تنفع ولا تضر، حجارة اجتمع حولها شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، شياطين الإنس في صورة كهنة وسدنة لأصنام حول البيت الحرام تتنزل عليهم الشياطين، يسترقون السمع ويسكنون تلك الأوثان ليقنعوا الخلق بأنهم آلهة تنفع وتضر، ولكن هيهات!
إن ذلكم الشيطان وأولياءه قد آن الأوان لدحرهم، وإبطال سلطانهم على الخلق.
هناك، المُخلِّص قد وُلِد، وشبَّ يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، يذهب إلى خلوته في غارٍ مخفيٍّ في جبلٍ على أطراف مكة، يتعبد لخالق الكون، ويتوسل إليه أن يذهب رِجس الشيطان، هذا القلب الطاهر، الذي شقه جبريل وغسله من عوالق الدنيا، وحصنه ضد أراجيف الشيطان وبهتانه
لم يكن يعلم أنه سيكون مدد النور من السماء إلى الأرض، النور الذي سيضيء للبشرية كلها ظلام الليل الدامس الذي عمّ البسيطة وملأها برِجس الشيطان.
هلَّ النور بنزول القوي الأمين على الطهر المبين، يحتضنه، يقول له: اقرأ.
فيقول: ما أنا بقارئ.
يقول: اقرأ.
ما أنا بقارئ.
يقول: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
فيهرع فزعًا من هول ما رأى،
إلى زوجة هي أكمل النساء على الأرض،
خديجة أم الزهراء،
يقول لها: دثروني دثروني…
إنها لم تكن مجرد زوجة، بل زوجة عشقت كل تفاصيل زوجها وتحصي عنه أحمد خصاله، تُذكّره بما تعلمه عنه، تذكير المؤمنة برب العباد، رغم انتشار الشرك وعبادة الأوثان، إلا أنها زوجة خير الأنام، قلبها كقلبه، وفطرتها كفطرته، خطبته لنفسها لكي تكون ساعده يوم يأتيه الأمر ويتنزل عليه جبريل.
هو يقول: دثروني دثروني.
وهي تقول: والله لا يخزيك الله أبدًا.
إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
إنك لأشرف الخلق، وأرحم الخلق، وأخلص الخلق، وحبيب الحق.
فيناديه الملك: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ …)
قم فأنذر.
أنذر الناس من غضبة الخالق، وبشرهم برحمته إن هم أجابوك،
ادعهم إلى عبادة الله، وترك عبادة الأوثان،تمم مكارم الأخلاق،
ساوِ بين الخلق، اقضِ على قساوة القلوب، وفساد ذات البين،
انبذ العنصرية، واهدم صروح الكبر والتمايز بين الخلق، علِّمهم أن ربهم واحد، وأن أباهم واحد، وأن ميزان الفضل عند الله هو تقوى الله والعمل الصالح، انشر الرحمة والتراحم، علِّمهم أن الدنيا مزرعة الآخرة، أخبرهم أن الموت ليس نهاية المطاف، إنما هناك يوم آخر بعده، فيه الحياة الأبدية
والناس فيه فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
خرج ﷺ ينادي في الناس:
(أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
ولكن هيهات…!
فهناك، حول الكعبة أصنام، وخلق أضلهم الشيطان، فأصمهم وأعمى أبصارهم،
استحوذوا على رؤوس القوم، فزينوا لهم العمى، فاستحبوه على الهدى،
أقنعوهم أن هذه الأوثان شركاء لله،
بل هم بنات الله،
بل هم شفعاؤهم عند الله،
بل هم من يقربوهم إلى الله زلفى، فهم واسطة بينهم وبين الخالق سبحانه،
وإخوانهم من الشياطين يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.
أخذوا في تحريض الناس على دعوة الحق، ورسول الإنسانية.
ومن هنا بدأت الملحمة الأزلية، التي لطالما دارت رحاها عند بزوغ نور يُذهب ظلام النفوس، ويحارب جحودها للخالق،
ملحمة النضال بين الحق والباطل.
سيد الخلق ﷺ بدعوته دون أعوان وأتباع- الا قلة قليلة- في مواجهة القوم برمتهم، وعقيدة الشرك والجهل والظلم والطغيان التي تغلغلت في النفوس من غابر الأزمان.
جاءه الأمر الرباني:
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).
فخرج مجاهرًا بدعوته، مجاهِرًا بعبادته لخالقه، وتبدأ الملحمة.
انتظرونا في اللقاء القادم بإذن الله تعالى، مع الجولة الأولى من صراع الحق ضد الباطل.
كل عام وأنتم بخير.
عام هجري مبارك بإذن الله تعالى.