الطريق إلى الله ليس حكرًا على أحد
28 يونيو، 2025
منهج الصوفية, منوعات

بقلم الدكتور : محمد لطفي الحسني
شيخ الطريقة القادرية البريفكانية في مصر
الحمدُ للهِ الواحدِ الأحد، الفردِ الصمد، الذي لم يتخذْ صاحبةً ولا ولدًا، والصلاةُ والسلامُ على من بُعث رحمةً للعالمين، وهادياً إلى صراطِ الله المستقيم، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثرهم في سُبل التزكية واليقين.
أما بعد،
فقد شاع في بعض المجالس والمنتديات الصوفية نداءٌ مموَّه، وادّعاءٌ مريب، يرفعه بعض المنتسبين إلى طريقٍ من طرق التصوف، زاعمين أن طريقتهم هي “أفضل الطرق”، بل قد يتجاوزون ذلك إلى الإشارة بأنها “الطريق الوحيدة إلى الله”، وأن غيرهم “إما على نقصٍ، أو على ضلالٍ مستتر”، وهي دعوى خطيرة، تنمُّ عن تعصبٍ دفين، وتُنذر بتحوُّل السلوك الروحي إلى عصبية مذهبية تنقض أصل التصوف ذاته.
أولًا: خطرُ هذه الدعوى ومنافرتها للذوق الروحي السليم :
إنّ في هذه الدعوى شططًا ظاهرًا، وتجاوزًا للمقام، فهي لا تصدر عن قلبٍ ذاق معنى الفناء في حب الله، بل عن نفسٍ لم تَبرَأ من حظوظِها الخفية.
ومن ادّعى أن طريقته هي “أفضل الطرق”، فقد نسب إلى نفسه علم ما لم يُؤته، وغمطَ غيره حقَّه دون بيّنة أو برهان.
ولو أن كلّ صاحب طريقة زعم أن طريقته وحدها هي الأكمل، لانقلب التصوف من مسارٍ للتزكية إلى ميدانٍ للمفاخرة، ولضاعت روح التواضع التي هي لبّ السلوك، وانقلب السالك من عبدٍ إلى حزبٍ، ومن محبٍّ إلى مُدّعٍ.
ولو أن كل صاحب طريقة زعم أن طريقته هي “الأفضل”، لانقلب التصوفُ من مسارٍ للتجريد والتجرد إلى ميدانٍ للتفاخر والتنازع، ولضاعت روح التسليم لله، وحلَّ محلها التقديس الأعمى للوسائط والأشكال.
ثانيًا: التصوف الحق لا يدعو إلى الانغلاق :
التصوفُ، كما عرّفه كبار السالكين، هو الصدق مع الله في السير إليه على بساط الإخلاص، وبنور السنة، وبصحبة أهل الصدق. فليس في التصوف دعوة إلى أن يُغلق السالك على نفسه بابًا دون سواه، وليس فيه مصادرةٌ لكرامةِ من سلك طريقًا غير طريقه، إذا كانت على الهدي المحمدي.
لقد سلك الإمام الجنيد غير ما سلكه الإمام الرفاعي، وكان طريق الشاذلي غير ما عليه البسطامي، ومع هذا كلُّهم كان من أهل الله، وكلٌّ وُفِّقَ لما وُسِّع له.
قال الجنيد: “الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق”، أفنأتي نحن فنحصرها في اسم الطريقة أو رسمها؟!
ثالثًا: منازعةُ الفضل مزلقٌ من مَزالق النفس :
إنّ أخطر ما في هذه الدعوى هو ما تكشفه من خللٍ في باطن النفس، فالتفاخرُ بالطريقة يشير – في الغالب – إلى غلبة النفس، لا إلى صفاء الروح. فإن المخلصين لا يرون أنفسهم، ولا يحتسبون لكرامتهم، ولا يُزكُّون مسيرتهم، وإنما يحمدون الله أن اصطفاهم للطريق، ولو شاء لتركهم في أودية الغفلة.
قال بعض العارفين: “من قال: نحن – دون غيرنا – عرفنا الله، فهو أبعدهم عن الله، وأجهلهم بالله.”فالفضلُ لا يُنسب إلى الطريقة، بل إلى التوفيق الإلهي، والصدق القلبي، والإخلاص الخفي. والطرق وسائل، لا غايات، ومن جعل الوسيلة غاية فقد عبد الشكل وترك الجوهر.
رابعًا: التصوف منبع وحدة، لا منبت فرقة
ومن طوامّ هذا الادعاء، أنه يضرب روح الوحدة، ويشق صفوف المحبين، ويجعل من التصوف المتسامح ساحة نزاع على الأفضلية.
فإن كانت الطُرُق كلها تُفضي إلى الله، فلمَ النزاع على السبيل؟ وهل الله يُسأل عن عباده من أيّ بابٍ دخلوا طالما دخلوا على باب التذلل والإخلاص؟
إنّ من مظاهر كمال الطريق أن يتسع قلب سالكه لغيره، لا أن يضيق صدره بمن خالفه، وإنّ من علامات الفتح أن يكون لسان العارف صموتًا عن تفضيل نفسه، مشغولًا بالله عن كل وصفٍ لها.
الخاتمة: دعوةٌ إلى التواضع والتجرد
أيها السالك، إيّاك أن يخدعك كثرة الأذكار أو شهرة الطريق، أو عدد المريدين، فكلُّ ذلك عَرَضٌ زائل، وليس دليلَ صدقٍ بالضرورة.
وكن كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم:
“وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّه” الحديث.
فالمحبوب عند الله هو من صدق، وإن قل ذكره، وخفي أثره، وكان بين الناس نسيًا منسيًا، لكنه عند الله عظيـم فدع عنك التعصب لطريقٍ دون غيره، واذكر أن الهُدى واحد، وأن الطرق وسائل، وأن كلّ من صدق في طلب الله، فالله إليه أقرب.
اللهم ارزقنا التواضع، والصدق، وحسن الظن بأوليائك، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، إنك رؤوف رحيم.