شهيدات الرزق: خرجن في طلب الحلال… فعُدن إلى الله شهداء


بقلم د : مصطفى طاهر رضوان

مدرس العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر الشريف

في صبيحةٍ هادئةٍ من أيام الله، وتحديدًا في يوم الجمعة الموافق 27 من يونيو عام 2025م، خرجت ثُلَّةٌ من الفتيات الطيّبات من قرية السنابسة التابعة لمركز منوف بمحافظة المنوفية، إلى أعمالهن، يحملن على عواتقهن أمانةً ثقيلة: أمانة السعي إلى الرزق الحلال.

لم يخرجن إلى لهوٍ أو ترف، وإنما خرجن يطلبن رزقًا طيبًا، ويكدحن في سبيل الله، يسعين على أنفسهن، وربما على أهلٍ ينتظرون عودتهن بلقمةٍ كريمة، أو على والدٍ قد أثقلته الشيخوخة، أو أمٍّ مكلومة ترجو منهنّ عونًا ودفئًا. خرجن وكأنّ جباههن تقول: “اللهم إنّا نسعى إليك بعملٍ حلالٍ طيب، فارضَ عنا».

لكن الطريق لم يُمهلهن، حادثٌ مروّع اختطفهن إلى لقاءٍ عاجل مع ربّ كريم، فغادرت الأرواح أجسادها في لحظة وجع، لكنّ الألم كان للتراب، أما الأرواح فقد عَرَجَت، تحملها نية الرزق، وتظللها شهادة الطريق.

أَهُنّ شهيدات؟
ينبغي أن نُصحّح المفهوم، فالشهادة ليست دمًا فقط، وليس كل شهيدٍ من سقط في ساحة قتال، فثمة من يموت في ساحة نِيَّة، ويرتقي في ميدان عزيمة، ويُكتَب عند الله من الشهداء.

وقد قرّر الفقهاء أن الشهيد الكامل هو من يُقتل في المعركة على يد أهل الحرب أو البغي، ويموت في الحال، دون أن يباشر أمرًا من أمور الدنيا بعد إصابته. وحكمه ألا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه، بل يُدفن كما هو.

أما “شهيد الآخرة”، فقد ذكر الإمام ابن عابدين أنهم نحو ثلاثين صنفًا – بل زادهم بعض العلماء إلى نحو أربعين – ومنهم: الغريق، والحريق، والمبطون، والمطعون، والمرأة تموت في نفاسها، ومن مات غريبًا، أو في سبيل العلم، أو سعيًا في رزقٍ حلال.

وقد نص ابن عابدين في حاشيته على أن من خرج يسعى على أهله – امرأته وولده وما ملكت يمينه – ليُقيم فيهم أمر الله، ويطعمهم من الحلال، فهو في مقام الشهداء يوم القيامة، وله درجاتهم. لكنهم يُغسَّلون ويُكفَّنون، ويُصلَّى عليهم، ويُرجى لهم عند الله أجر الشهادة وكرامتها.

كما قال رسول الله ﷺ: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع».
وقياسًا على هذا، فمن خرج في طلب الرزق الحلال – مخلصًا، لا رياءً ولا فسادًا – فإنما خرج في سبيل الله.

فإذا عاجله الموت على هذا الطريق، رُجي له أن يُبعث على هذه النية، ويُكرم بشيءٍ من مقام الشهداء.

نعم، ميدان الشرف لا يقتصر على الجهاد المسلح، بل يشمل مَن خرج يكدّ في الحلال، ليصون كرامته، ويحمي وجهه من الذل، فإن مات في الطريق، فقد مات في ميدانٍ من ميادين الشرف.

وكلُّ من سعى في وظيفةٍ شرعيةٍ – كالتعليم، والتربية، والنفقة، والعمل الشريف – فهو في مقام العابد، بل في مقام المجاهد، إن صحت نيته.

وما ماتت قلوبٌ خرجت بصدق:
إن هؤلاء الفتيات لم يمُتْن، بل انتقلن من دار الكدّ إلى دار الجزاء، من صقيع الصباح إلى دفء الرضا الإلهي، من زحام المركبة إلى سَعة الرحمة.
فمن الناس من يموت على فراشه وقد عمّر الأرض فسادًا، ومنهم من يموت على الطريق وقد عبّده بالنية الطيبة
.

وأولئك نرجو لهنّ أجر الله، وذكْرًا يُخلّد، ودعاءً لا ينقطع.

نعم، ماتت فتياتٌ على طريق العمل، لكنهن ما خرجن إلا إلى الله، خرجن بنيّة العفاف، فاستقبلهن الله – نرجو ذلك – في مقام الشهيدات. ولا نزكّي على الله أحدًا.
قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾

فهنيئًا لهنّ ما نرجوه من كرامة الشهادة، وجبر الله قلوب أهلهن، وألهم ذويهن صبرًا جميلاً وسلوانًا من عنده، فهو خير المعين ونِعم المؤنس، والحمد لله رب العالمين.