خوف السلف في الفتوى

بقلم الشيخ : أبوبكر الجندى

وُلِد الإنسان يوم وُلِد لا يعلم أي شيء عن أي شيء، ثم جعل الله له وسائل للمعرفة من السمع والأبصار والأفئدة، قال تعالى الله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: 78]، فيتعلم الإنسان ويزداد علما شيئا فشيئا، حتى يصبح الإنسان عالما في فن من الفنون، ورغم ذلك يظل جاهلا في كثير من التخصصات الدينية والدنيوية، فيرجع حينئذ للمتخصصين، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43].

ونظرا لخطورة الفتوى في الدِّين وتجرأ البعض على الفتوى من غير علم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”، فالفتوى قد تكون توفيق وهداية، وقد تكون ضلالة وغواية؛ ولهذا كان السلف الصالح يخافون من الفتوى ومن تَبِعَاتِها؛ لأن كثرة الفتوى من قله التقوى، وهذه بعض نماذج من أقوالهم:

قال ابن مسعود: “إنَّ الذي يُفْتِي النّاس في كُلِّ ما يَسْتَفتونه لمجنونٌ، وقال أيضاً: جُنَّة العالم “لا أدري”.

وقال ابن أبي ليلى: “أدركت مائة وعشرين صحابياً، وكانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر حتى ترجع إلى الأول”.

وكـان ابـن عمر رضي الله عنهما يُسْأَلُ عن عشر مسائل فَيُجِيبُ عن واحدةٍ ويَسْكُتُ عَن تِسْعٍ.

قال أبو إسحاق السبيعي: “كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس عن مجلس إلى مجلس حتى يُدفَع إلى مجلس سعيد بن المسيب؛ كراهيةً للفتيا”.

وجاء رجل من الأندلس إلى الإمام مالك، وسأله عن اثنين وأربعين مسألة، فأجاب عن اثنين، وقال في الأربعين: لا أدري فتعجب الرجل ثم قال: ” أنت مالك ولا تدري؟! ” قال: ” نعم، وأخبر من وراءك أن مالكا لا يدري”.

وقال محمد بن المنكدر: “إنَّ العالِمَ بينَ الله تعالى وبينَ خَلْقِهِ، فلينظرْ كيفَ يدخلُ بينهما”.
وقال حصين الأسدي: “إن أحدَكم ليُفْتِي في المسألةِ ولو سُئِلَ عنها عمرُ بن الخطاب لجمعَ عليها أهلَ بدرٍ!!”.

وسئل الشعبي مرة عن مسألة فقال: “لا عِلْمَ لي بها”، فقيل له: ألا تستحي، فقال: “ولم أستحي مما لم تستحِ الملائكة منه حين قالت: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}[البقرة: 32].

أما الذين يتجاسرون على الفتوى من غير المتخصصين فقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم منهم وعنَّف مَن تعرَّض للفتوى والاجتهاد بغير علم، أو أفتى بغير بصيرةٍ، بل ودعا عليهم، فحين بلغه صلى الله عليه وسلم عن الذين أفتوا مجروح الرأس بوجوب الغسل، فغسل رأسه فمات، فقال: “قتلوه قتلهم الله، أولم يكن شفاء العي السؤال”، فالجهل مرضٌ، وهو مرضٌ معدٍ للأجيال، يتعدى ضرره الزَّمان، وخطره المكان، إذا تصدر الجاهل للفتوى، وأقحم نفسه في غير ما يُجيد.

وقد سُنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ــ القوانين العقابية الرادعة لمن تكلم في غير تخصصه وتطبب وهو غير طبيب فقال: “من تطبب ولا يُعلَم منه طب فهو ضامن”، فالفتوى من غير المتخصص غير مقبولة على الإطلاق؛ إن أصاب؛ لأنها صادرة عن جهل، وإن أخطأ فانه يتحمل كل الأثار السلبية والتبعات التي خلفته فتواه لكل من أُضره به.