التجربة الصوفية من منظور أدبي (الحِكَم العطائية) أنموذجًا
13 يونيو، 2025
منهج الصوفية

بقلم الشيخ : ياسر البلتاجي بدوي حسين
مفتش بوزارة الأوقاف المصرية
أيديولوجية الخطاب الصوفي:
يمثل الخطاب الصوفي بأيديولوجيته وبنيته اللغوية والدلالية حالة من التفرد بين النصوص الأدبية، فهو في بيانه يمثل رؤية عرفانية لتجربة حياتية عجزت اللغة عن التعبير عنها، فخرجت محملة بطاقة مشحونة في صورة رمزية وإشارية تحتاج من المتلقي البحث عن مضمراتها لفهم مضامينها.
وقد بُنيت الحِكم العطائية على استراتيجية واعية ومؤسِّسة لمنهج تربوي يمثل خلاصة التجربة العرفانية التي خاضها ابن عطاء الله السكندري، وامتاز أسلوبه اللغوي بإرث كبير يجمع بين التراث الديني والأدبي، فخرجت الحكم في صورة خطاب مكثَّف يحمل دفقات دلالية تميزت بالبعد عن الإغراب، مع حملها للإشارة والرمز الصوفي.
إشكالية التلقي:
نشأت نظرية التلقي في نهاية الستينات من القرن الماضي من رحم المدرسة الألمانية على يد (هانز روبرت ياوس)، و(فو لفغانغ ايزر)، وقدمت تصورًا جديدًا لمفهوم العملية الإبداعية غيَّرت به مسار الدراسات الأدبية، إذ عدَّ المتلقي عنصرًا مشاركًا في العملية الإبداعية([1])، بعد أن كان المتلقي سلبيًّا لا يشارك في فك شفرات النص وفهم مغاليقه، وبذلك صار فهم النص الأدبي عملية مشاركة بين المتلقي المثالي والمبدع للنص، وقد تطورت هذه النظرية وصارت الأبحاث المتتابعة تؤسس لها وتضع المبادئ العامة لها.
وأهم ما نقف عنده من هذه الأطروحات “معايشة عوالم ثلاثة: الأول: يرتبط المتلقي بعلاقة بين نظام الرموز الملموسة والأصوات فيقوم بمقارنة ما يتلقاه مع ما هو موجود في الحقيقة. الثاني: إحداث نوع من التفاعل مع النص. الثالث: المقارنة والنقد”([2]).
ومن خلال هذا نفهم الإشكالية التي وقع فيها الكثير في موقفهم من النص الصوفي، فهو خطاب موجه لمتلقٍ معين يفهم الرمزيات العرفانية، والإشارات الصوفية، فيسهل عليه فهم النص وإدراك حقيقته، أما غيره ممن لم يقف على حقيقة هذه الرمزيات والإشارات أُغلق عليه الفهم فرمى الصوفية بالشطط والخطأ، ووقف منهم موقف المعادي.
فالصوفية كجماعة لها منهج متمايز عن غيره ملجأوا إلى الرمز للكشف عن معاني باطنية،ومحاولة لتسترممنيغايرهم فيالطريقة،ويؤكد الكلاباذي أنهم يستعملون “ألفاظًا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم والإجمال والستر على مَنباينهم في طريقتهم لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها”([3])، وهذا ما يؤكده الطوسي أيضًا فيقول: ” الإشارة: ما يَخفى عن المتكلم كشفه بالعبارة للطافة معناه. والرمز: معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر، لا يظفر به إلا أهله”([4]).
الحِكم العطائية:
تعد هذه الحكم خلاصة التجربة التي عاشها ابن عطاء الله وجمع فيها خلاصة علمه الشرعي وطريقته الصوفية التي هي منهج التوحيد الخالص، وتعلق القلب بالله تعالى، فابن عطاء إمام من أئمة التصوف السلوكي وهي لم تخرج في معانيها عن الكتاب والسنة، بل تدعو المريد الذي يسير على طريق التصوف إلى النظر والتوجه لله وحده بالقلب والعمل حتى يسمو بروحه، وتطهر نفسه، ويبلغ درجة الكمال الروحي.
يقول ابن عطاء: “الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سرّ الإخلاص فيها”.
ويقول: “لا صغيرة إذا قابلك عدله، ولا كبيرة إذا واجهك فضله”.
ويقول: “خفْ من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه؛ أن يكون ذلك استدراجًا لك من حيث لا تعلم {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَايَعْلَمُونَ} [الأعراف: 128. والقلم: 44]”.
ومن الحكم التي تحتاج إلى الشرح وفهم دلالتها بالرجوع إلى شراح الحِكم، مع ما تميز به ابن عطاء بابتعاده عن الإلغاز والإغراب،قوله في الحكمة الثانية: “إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب؛ من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد؛ انحطاط عن الهمة العلية”([5]).
فـ(التجريد) لا يفهم معناه إلا من خلال شروح الصوفية له، وهو يعني التخلي عن أعراض الدنيا، وعرفه الكلاباذي بقوله: “أن يتجرد بظاهره عن الأعراض، وبباطنه عن الأعواض”([6])، ويرادفه مصطلح (التفريد)، وكلها مصطلحات تتسم بالغرابة لدى المتلقي الذي لا يملك كفاءة تأويل المصطلح.
أما قوله: (الأسباب) فهو معنى ظاهر، فهي عبارة عما يتوصل به الإنسان إلى مراده، ولكن المعنى العام للمتلقي لا يفهم إلا بفهم (التجريد) المذكور، وعليه فإن ابن عطاء أراد إبلاغ قضية مهمة للمتلقي الصوفي وهي أن يلزم حالته التي أقامه الله عليها ولا يتجرد بنفسه بأن يأخذ بالأسباب للانتقال من حالٍ روحية إلى حال، حتى يكون الله تعالى هو الذي يسبب له الأسباب ليتجرد؛ لا أن يسعى هو من نفسه للتجرد، كما قال بعضهم: “تركت السبب كذا وكذا مرة؛ فعدت إليه، وتركني السبب فلم أعد إليه”([7]).
ويتميز أسلوب ابن عطاء بموقف خاص تجاه الإشارة الصوفية، إذ قيد الإشارة بقيود معينة، ودعا أهل التصوف إلى التمسك بهذه القيود والضوابط، وهو موقف معتدل ينم عن توجهه الصحيح الموافق لأهل السنة والجماعة، وذلك ليس بعيد عليه لجمعه بين العلم الشرعي، وطريق التصوف، مما جعل إشاراته واضحة مفهومة ليس فيها إغراب ولا تعمية يقول ابن عطاء: “مَن أُذن له في التعبير –فهمت في مسامع الخلق-عبارته، وجليت إليهم إشارته”([8]).
وهو يقصد بذلك أن العارف بالله لا بد أن يؤذن له بالكشف عن عبارته، فإن لم يؤذن له خرجت عبارته ملغزة لا يفهمها المتلقي، وما ذاك إلا لتعجله الأمر، ونقصان درجته في الرقي الروحي.
وفي الحكمة الثلاثين يقول: “لينفق ذو سعة من سعته؛ الواصلون إليه، ومن قدر عليه رزقه؛ السائرون إليه”([9]).
فالإشارة تلميح إلى الفرق بين فريقين في المعرفة والعلم؛ العارفين بالله، والعلماء السالكين في طريق الله،والإشارة هنا مفهومة من قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]، وهو تفسير بعيد عن سبب نزول الآية في الإنفاق الحقيقي على الزوجات، لكن الارتباط واضح بين السبب والمدلول، فالعلم أيضًا يُنفق ويكون له أجر، والآية حددت درجات الإنفاق على قدر الحال، وابن عطاء جعل إنفاق العلم على قدر الوصول والمعرفة بالله.
([1]) ينظر: إشكالات نظرية التلقي: المصطلح، المفهوم، الإجراء، علي حمودين، المسعود قاسم، مجلة الأثر، ع 25، 2016م، ص 306.
([2]) نظرية التلقي وأطروحاته، الشريف مرزوق، مجلة النص، مج 7، ع 1، 2021م، ص 201.
([3]) التعرف لمذهب أهل التصوف، محمد بن إسحاق الكلاباذي، ت: أحمد شمس الدين، ط 1، 1993م، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ص 102.
([4]) اللمع، أبو نصر السراج الطوسي، ت: عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور، ط 1960م، دار الكتب الحديثة بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، ص 414.
([5])الحكم العطائية، ابن عطاء الله السكندري، شرح ابن عبَّاد النَّفزي الرُّندي، هيكل، وعبد الصبور شاهين، ط 1، 1988م، مركز الأهرام للترجمة والنشر- القاهرة، ص 46.
([6])التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 131.
([7])الحكم العطائية، ص 95.
([8])السابق ص 75.
([9])السابق ص 51.