الذكاء العاطفي: مصطلح حديث بجذور قرآنية ونبوية

بقلم د إبتسام عمر عبد الرازق


على الرغم من أن مصطلح «الذكاء العاطفي» (Emotional Intelligence) لم يظهر في الأدبيات الغربية إلا في تسعينيات القرن العشرين، عبر أبحاث بيتر سالوفي وجون ماير ثم دوّنه دانيال جولمان في كتابه الشهير عام 1995، فإن جوهر هذا المفهوم يجد له جذورًا راسخة في القرآن والسنة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا. فآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تزخر بتوجيهات تُنمّي الوعي بالمشاعر، وضبط النفس، والتواصل الذكى مع الآخرين.

يعرف علماء النفس الذكاء العاطفي بأنه القدرة على إدراك المشاعر وفهمها وإدارتها في الذات وفي الآخرين، وحفز النفس نحو الأهداف، وبناء علاقات اجتماعية فعّالة. ويشير المصطلح إلى حزمة مهارية لا ترتبط بقوة الذاكرة أو سرعة الحساب، بل بسلامة القلب ولُطف التعامل.

ويتكون الذكاء العاطفي من
1. الوعي الذاتي (Self Awareness)
2. إدارة الذات أو ضبط النفس (Self Regulation)
3. الدافعية (Motivation)
4. التعاطف (Empathy)
5. المهارات الاجتماعية (Social Skills)

جاء القرآن والسنة بتأصيل هذه المبادئ قبل أن يُصطلح عليها حديثًا.
الوعي الذاتي: قال تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ (القيامة: 14).
ويقول ﷺ: «الكَيِّسُ من دانَ نفسَهُ…» (رواه الترمذي).
يدعو النصّان إلى محاسبة النفس، وهي الدرجة الأولى لفهم المشاعر وتوجيهها
ضبط النفس : يأمر القرآن بـ ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ (آل عمران: 134)، ويقول ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة…» (متفق عليه).
فالتحكم في الغضب نموذج كلاسيكي لإدارة الانفعالات.
الدافعية: يحفِّز القرآن المؤمن على السعي: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ (الليل: 4)، ويحث النبي ﷺ بقوله: «احرص على ما ينفعك…» (رواه مسلم).

إن توجيه الطاقة الداخلية نحو أهداف سامية يرسخ قوّة الإرادة.
التعاطف: من أبلغ أوصاف النبي: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة: 128)، ويشبّه ﷺ المؤمنين بالجسد الواحد «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد…» (متفق عليه).
تصوير إسلامي بليغ لمعنى التعاطف قبل ظهوره في علم النفس.

المهارات الاجتماعية: يأمر القرآن: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: 83)، وينص حديث «تبسمك في وجه أخيك صدقة» على أبسط تقنيات بناء الألفة

ويوجد نماذج عملية من القرآن والسنة:
• قصة يوسف عليه السلام: اجتمعت فيها عناصر الإدراك (تأويل الرؤيا)، ضبط النفس (مقاومة فتنة زليخا)، التعاطف (خدمته للسجناء)، والمهارات الاجتماعية (إدارته لاقتصاد مصر)، وصولًا إلى التسامح مع إخوته.

• النبي ﷺ مع الغلام الذي أكل بالشمال: علّمه بعبارات قصيرة ولطيفة، فجمع بين التوجيه والرفق؛ وهذا لب التواصل الذكي.
• فتح مكة: أطلق خصومه قائلًا: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، فأعلى العفو على الانتصار، ضاربًا مثلًا فذًّا في التحكم بالعاطفة والسمو الأخلاقي.

باستقراء نصوص القرآن والسنة يتبين أن الشريعة سبقت الدراسات الحديثة إلى تأصيل مبادئ الذكاء العاطفي، بل جعلت منها عبادة يثاب عليها المسلم. فإحياء هذه المعاني في الأسرة، والمدرسة، ومؤسسات العمل يُعَدُّ استثمارًا حضاريًا يردُّ للإنسان انسجامه بين العقل والقلب، ويُجسِّد قول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.