أضحية ببهيمة الأنعام أم بالبشر؟ مفارقة الماضي والحاضر في ميزان الإنسانية
31 مايو، 2025
منبر الدعاة

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
يقترب عيد الأضحى المبارك، وتتزين المساجد بالتهليل والتكبير، وتستعد بيوت المسلمين لاستقبال شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، حيث تُسَن الأضاحي تقرُّبًا إلى الله تعالى، وتُذبح بهائم الأنعام امتثالًا لسنة إبراهيم الخليل عليه السلام، ذلك النبي الذي خضع لأمر الله في أقسى امتحان عرفته البشرية، حين رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، فلم يتردد في تنفيذ الأمر، لكنه ما إن همّ بالذبح، حتى فداه الله بذِبح عظيم، ليُسَجِّل الإسلام لحظة مفصلية في تاريخ الإنسانية: نهاية الأضاحي البشرية إلى الأبد، وبداية شريعة الرحمة والتقوى، حيث الأضحية لا تنال الله بل تنال منه التقوى والإخلاص والطاعة.
ولئن كان الإسلام قد ألغى طقوس الحضارات القديمة التي كانت تقدم البشر قرابين للآلهة الوهمية، فإن واقع اليوم يعكس مفارقة مأساوية: ففي الوقت الذي يحيي فيه المسلمون سنة الرحمة والرفق في عيد الأضحى، يحيي أعداء الإسلام طقوس الذبح من جديد، ولكن ليس للأبقار ولا الغنم، بل للرجال والنساء والأطفال في مشاهد دموية، لا تختلف عن ممارسات الوثنية الأولى، بل تفوقها في الوحشية والتجرد من القيم.
لقد جاء الإسلام في زمن كانت فيه البشرية تعيش أقسى صور الهمجية، فالقبائل الوثنية كانت تدفن البنات أحياء، وتقدّم الصبية قرابين للآلهة، وتؤمن أن قربان الإنسان هو السبيل إلى رضا الرب. فجاء الإسلام ليضع حدًا لهذه الجرائم باسم الدين، ويؤسس لفهم جديد للعبادة والتقرب: عبادة تقوم على الرحمة، لا على الدماء، وعلى المحبة لا على العنف. فنهى عن قتل النفس، وأمر بحفظ الكرامة الإنسانية، وحرّم سفك الدم بغير حق، بل جعل قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعًا، فرفع قيمة الإنسان فوق كل شعائر الطقوس والقرابين، وجعل التقوى هي الفيصل بين الناس، لا أعداد الأضاحي ولا مظاهر العبادة الجوفاء.
غير أن ما نشهده في عصرنا من مذابح ومجازر في حق المسلمين، خاصة في فلسطين وتحديدًا في غزة، يُعيد إلى الأذهان مشاهد التضحية البشرية، ولكن هذه المرة بوجوه بريئة، ودماء أطفال، وصرخات نساء، تُزهق أرواحهم بدم بارد تحت صواريخ الحقد والحصار، وتُقدَّم جثثهم قربانًا على مذابح السياسة القذرة، وعلى طاولات المؤتمرات التي تبارك العدوان، وتدّعي الحياد بينما تصمت على الجريمة.
ففي الوقت الذي تنحر فيه الأضاحي في شوارع القاهرة، والرباط، وجاكرتا، وإسطنبول، تُنحر في الوقت ذاته أجساد الفلسطينيين في غزة، تُسفك دماؤهم أمام العالم، ويُمنع عنهم الدواء والماء والكهرباء، فلا مستشفيات، ولا ممرات آمنة، ولا أعين باكية كأنهم لا بشر، وكأن صرخاتهم لا تُسمع. هؤلاء لا يعرفون من الأعياد سوى الدمار، ولا من العيد سوى التاريخ، بينما تُزين الشوارع عندنا بالأنوار والزينات، وتُعلق الزينة على جدران بيوت تنعم بالدفء، وهم يفتقرون حتى لجدار يحتمي من القصف.
إنها المفارقة التي تكشف زيف الإنسانية المعاصرة، وازدواجية المعايير، حين يُعتبر ذبح الأنعام طقسًا مهددًا للبيئة، بينما تُبرر المجازر اليومية بحق الشعوب المسلمة بأنها دفاع عن النفس، أو مكافحة للإرهاب، وكأن الطفل في حضن أمه قنبلة، وكأن العجوز في سجادة الصلاة يشكل تهديدًا وجوديًا.
لقد أصبح عيد الأضحى مناسبة للكشف عن وجهين للحقيقة: وجه الرحمة والتقوى والإحسان، ووجه الظلم والبربرية، فبينما نذبح الأنعام طاعة لله وتكريمًا للإنسان، يذبح أعداؤنا الإنسان طاعة لأهوائهم وعدوانهم، فيصنعون أعيادهم على أنقاض شعوب، وينشرون أمنهم على حساب أمن غيرهم.
إن أمتنا اليوم مطالبة بأن ترفع صوتها في وجه هذه المفارقة الصادمة، وأن تُحيي في عيدها معاني التضحية الحقيقية، لا بذبح الأنعام فحسب، بل ببذل الغالي والنفيس في سبيل نصرة المظلومين، والدفاع عن المستضعفين، وفضح المتواطئين الصامتين على دماء الأبرياء. إن دموع أم فلسطينية فقدت أبناءها، أثقل وزنًا عند الله من كل الأضاحي، وإن آهات طفل تحت الأنقاض، أصدق شهادة على نفاق العالم.
فليكن عيدنا هذا العام عيد يقظة ووعي، لا فقط عيد ذبح ومرح، ولتكن أضحيتنا هذا العام دعاءً لا ينقطع، وسعيًا لا يلين، وتضامنًا لا يتوقف، حتى يتوقف ذبح الأبرياء، وتُرفع المذابح عن أمتنا، ويعود العيد ليكون كما أراده الله: عيدَ فرح ورحمة وسلام.
في زمنٍ تُذبح فيه غزة كل يوم، ويُعلّق صغارها على مشانق التجاهل العالمي، وتسكن صرخاتهم جدران الأنفاق بدلًا من حضن العالم، ما عادت زينة العيد تُفرح القلب، ولا الحلوى تُسكر الروح، فكل ابتسامة تُولد تُقابلها دمعة تُزهق، وكل تكبير يُعلَن في مسجد يقابله صاروخ في حي سكني، وكل تكبيرات العيد التي تصدح بها المآذن، تصاحبها تكبيرات الموت التي تزمجر بها طائرات المعتدين.
نحن لا نحتفل فقط، بل نحزن ونكبت الألم، ونُخفي القهر في ثيابٍ جديدة، ونُقبّل أطفالنا وقلوبنا ترتجف خوفًا من أن يلقوا ذات المصير. نحن نذبح بهائم الأنعام، وهم يذبحون أطفالنا، نحن نُوزّع اللحم، وهم يُوزّعون الموت، نحن نسير للمساجد، وهم يسيرون بالدبابات إلى الأحياء، نحن نُكبر لله، وهم يُكبرون للدم.
فيا عيدًا مرّ علينا مثقلاً بالأنين، ويا عيدًا حزينًا مغلّفًا بالدموع، ويا ربَّ الضحايا في كل مكان، لا تجعل هذا العيد كسابقه، لا تترك غزة وحدها، لا تترك أطفالها يتيهون في المقابر، ولا أمهاتهم يبحثن عن أطرافٍ صغيرة بين الركام.
اللهم اجعل أضاحينا شهادة أننا لم ننسَ، أن أرواحنا مع المظلومين، أن قلوبنا ما زالت تنزف، أن دمنا لم يبرد، وأنّا رغم صمت العالم، ما زلنا نحمل في أعماقنا يقينًا بأن الحق لا يُذبح، وأن النور لا يُطفأ، وأن العيد سيعود يومًا لأهله في غزة، حرًا، نقيًا، لا تحوم فوقه طائرات، ولا يُلطّخ بهجته رمادُ الصواريخ.
وإلى أن يأتي ذلك اليوم، سيظل العيد ناقصًا، وستظل فرحتنا مبتورة، وستظل أضحيتنا الأعظم هي أن لا نصمت.