آيات الحج (6)

بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

يقول الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}المبتلِي هو الله تعالى؛ والمبتلَى إبراهيم مفعول مقدم؛ وقُدِّم تشريفاً له واهتماماً به، والابتلاء الاختبار{بِكَلِمَاتٍ}وهي كل ما أمره به شرعاً، أو قضاه عليه قدراً{فَأَتَمَّهُنَّ}كقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}[النجم: 37]، فابتُلي بإلقائه في النار فصبر واحتسب، وابتُلي بذبح ابنه فامتثل، واختبره الله تعالى بالحنيفية السمحة فحملها وكانت منهجه الواضح وملته المتبعة، وما كان من المشركين، فالإمام مَن وفَّى وأتم، ولو أَتْمَمْنَا ووفينا لأصبحنا أئمة حنيفين.

{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}يُقتدى به في الخير لكل من أتى بعده، حتى خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، قال تعالى له: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل: 123]، وجاعل اسم فاعل يفيد التأكيد على إمامته رغم المحاولات للقضاء على ملته وإماتة دعوته، فجعله الله تعالى محل اجتماع الأمم واتفاقهم {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}يكونوا أئمة مثلي{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}وفي هذا استجابة لدعائه، ولكنه مقيد بغير الظالم، أمَّا الظالم منهم فلا ينال ذلك، ولا يصلح للإمامة، حتى وإن صَلُح للحكم أو الولاية؛ فالظلم لا يرفع الظالم بل يحط من شأنه على قدر ظلمه، كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}[الصافات: 113]، ولا مَلام على الخليل عليه السلام في طلب الإمامة له ولذريته؛ إذ ليس هو طلب للرئاسة، بل لخدمة الدين، كما سألها عباد الرحمن وقالوا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان:74].

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}يثوبون ويرجعون إليه في كل صلاةٍ مستقبلين غياه، وفي كل عامٍ حجاجاً ومعتمرين، وليس هو مجرد رجوع فقط، بل هو رجوع بشوقٍ ومثابة بحبٍ، فالقلوب ترتمي وتنجذب إليه انجذاب الحديد للمغناطيس، بل هو أشد{وَأَمْنًا}لمَّا جعله الله تعالى مثابة للناس، يرجعون إليه مرةً بعد مرةٍ رحمهم، فجعله أمناً للناس على دمائهم، وأموالهم.

وإطلاق كلمة (البيت) على البيت الحرام إشعار بفضله وكماله، فهو أول وأكمل بيت وضع للناس، وموضع الأمن من الخوف، ومثابة الناس{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ}وهو الحَجَر الذي قام عليه إبراهيم لرفع قواعد البيت، وقيل مقامه جميع مواقف الحج ومشاعره{مُصَلًّى}مكاناً للصلاة عنده بعد الطواف، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد طوافه ركعتين خلف المقام، وقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وفي ذلك إبقاء لذكره وتنويها بالصلاة في ذاتها، وأنها صلة بين الماضي والحاضر، وأن الصلاة عنده كانت بأمر الله تعالى، وليست بأمرٍ من عند الخليل عليه السلام.

{وَعَهِدْنَا}العهد الوصية بالأمر الهام{إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ}وهي إضافة تشريف وتعظيم، وهذه الإضافة هي سرُّ المثابة وانجذاب الأفئدة إليه، والمراد تطهيره من الأرجاس الحسية والمعنوية{لِلطَّائِفِينَ}بالبيت، وقدَّمهم؛ لأنَّ الطواف لا يكون إلا حوله، ولو طاف خارج المسجد ما أجزأه؛ لأنه يكون حينئذ طائفاً بالمسجد لا بالكعبة{وَالْعَاكِفِينَ}وثنى بـهم؛ لأن عبادتهم خاصة بالمساجد؛ لكنها أعم من الطواف{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}وعبر عن الصلاة بالركوع والسجود؛ لأنهما ركنان فيها؛ فإذا أُطلق جزء العبادة عليها كان ذلك دليلاً على أن هذا الجزء ركن فيها لا تصح بدونه؛ وثلّث بهم؛ لأن الصلاة تصح في كل مكان بالأرض؛ فقد جعلها الله تعالى مسجداً وطهوراً.

اترك تعليقاً