
بقلم المحب لدينه ووطنه د : مختار البغدادى
يا من أنكرتَ عليّ زيارتي لقبور أولياء الله، وقفتَ حيث لا ينبغي الوقوف، وخضتَ فيما لا يحسن فيه الخوض، فدعني أُريك نور الدليل، وأقودك في رياض الفقه الجميل، لعلك ترجع إلى رشد، وتفئ إلى رشد، فإنها نصيحة محب، لا لجاجة خصم.
ألا فاعلم – رعاك الله – أن زيارة قبور الصالحين من سنة سيد المرسلين، ومأثور عن سلف هذه الأمة الطيبين، وموطود في كتب الأئمة المهتدين.
قال ﷺ: «كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكّركم الآخرة» (رواه مسلم).
فانظر! لم يقل: “فاجتنبوها”، ولا “فاحذروها”، بل أمر بالزيارة، وعللها بأجل المقاصد: تذكير الآخرة.
فإن قلتَ: “حديث شدّ الرحال!”
قلت لك: مهلاً أيها المنصف – إن كنت منصفًا – فإن قول النبي ﷺ:
«لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد…» (متفق عليه)
ليس فيه نهي عن زيارة صالح، ولا منع من السفر إلى وليّ، وإنما هو بيان لخصوص الفضل في شدّ الرحال لأجل الصلاة، إلى المساجد الثلاثة، لا نفي لما سواها من القربات.
ونقول له أيضاً : مهلاً، فإنك حملت الحديث ما لا يحتمل، وضللت عن فهم الأئمة المحققين، إذ “لا” هنا نافية لا ناهية لوكنت مطلع علي اللغه، والحديث معناه:
لا يُقصد مسجد بالسفر تعبّدًا بالصلاة فيه طلبًا لفضل مخصوص إلا هذه المساجد الثلاثة، لما لها من خصوصية في الأجر والمكانة، وليس فيه نهي عن السفر لزيارة قبر نبي، أو طلب علم، أو برّ والد، أو صلة رحم، أو غيرها من القربات.
ولو كانت “لا” ناهية كما زعمت، لكان السفر لطلب العلم حرامًا! والسفر لبرّ الوالدين مذمومًا! والسفر لزيارة النبي ﷺ نفسه منهيًا عنه! وهذا لا يقول به إلا من أُشرب قلبه غلظة في الفهم، أو اتبع هوىً بعيدًا عن نور العلم.
بل إن النبي ﷺ شدّ الرحال بنفسه لزيارة قبر أمه في الأبواء، كما في صحيح مسلم، وسافر إلى قبور الشهداء، وخرج إلى البقيع يدعو لأهل القبور، فهل يُعقل أن يفعل ما ينهى عنه؟!
وقد قال إمام المحققين، ابن حجر العسقلاني:
«الحديث لا يدل على تحريم السفر لزيارة القبور، بل هو نفي لفضيلة مخصوصة».
وقال القطب الأشعري الإمام النووي:
«ليس في الحديث ما يدل على النهي عن زيارة قبر نبيّ أو صالح، بل هو خاص في المساجد».
فهل بعد قولهم من قول؟!
أم تُقدم فهمك على فهمهم؟!
أم تُقدم فهمك على فهمهم؟!
أما أنا، فإني أزورهم حبًا، وأقف عندهم أدبًا، وأدعو الله عند قبورهم تبركًا، لا عبادةً لهم، ولا تعظيمًا يخرج عن حد الشريعة. أزورهم كما زار النبي ﷺ قبر أمه، وكما زار الصحابةُ البقيع وشهداء أُحد، أزورهم رجاء دعوة صادقة في مقام مبارك، لا طلبًا لضرّ أو كشف كرب منهم – معاذ الله – وإنما هم عبادٌ لله أكرمهم، ونحن نتوسل بمحبتهم لا بذواتهم.
وإن تعجب، فعجبٌ قول من يُنكر زيارة الأولياء وهو يطير قلبه شوقًا لزيارة “مقام الإمام الشافعي”، ويقف بخشوع عند “ضريح الإمام الحسين”، ثم يُنكر على غيره فعلاً يُماثل فعله.
يا هذا، لسنا في مقام جدل عاطفي، بل مقام تحقيق علمي.
ولو أنفقتَ بعض وقتك في كتب العلم كما أنفقتَه في تتبع الناس، لعلمتَ أن ما نفعله عليه جماهير العلماء، من الشافعية والمالكية والحنفية وجمهور الحنابلة، وهو دين الأزهر الشريف، ومنهج الأشاعرة أهل الحق والإنصاف.
فيا من أنكرت، هون عليك، فإن بيني وبينك العلم والدليل، لا الظن والانطباع.
وإن كنتَ باحثًا عن الحق، فها هو أمامك، واضحًا كالشمس، لا يخفى على بصير.
وإن كنتَ تريد غير ذلك، فسلامٌ عليك، أما أنا، فأدين الله بزيارة أوليائه، محبةً لهم، وتقديرًا لعلمهم، واقتداءً بهدي نبيهم ﷺ.