جراح المسلمين الممتدة من شعب أبي طالب إلى غزة: حظر اقتصادي لا يتوقف .والأمل في الله كبير

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

منذ اللحظات الأولى لنزول الوحي، واجه المسلمون عداءً ممنهجًا، لم يكن يقتصر على السخرية أو الأذى البدني فحسب، بل امتد ليشمل الحصار الاقتصادي والاجتماعي، أحد أخطر أسلحة العقاب الجماعي التي لا تميز بين طفل أو شيخ، بين رجل أو امرأة. وكان أول فصول هذا الحصار الجائر في شعب أبي طالب، حين قررت قريش أن تحارب الإسلام بطريقة التجويع والكسر المعنوي، فكتبت صحيفة مقاطعة ظالمة علقتها في جوف الكعبة، تعاهدت فيها على ألا يبيعوا لمحمد ﷺ وأتباعه شيئًا ولا يشتروا منهم، وألا يُزوِّجوهم ولا يتزوَّجون منهم، ولا يجالسوهم أو يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول الله ﷺ إليهم.

دخل المسلمون ومن معهم من بني هاشم الشعب الذي لا ظل فيه ولا طعام، فأكلوا ورق الشجر، وكان يسمع صوت بكاء الأطفال من شدة الجوع، واستمر الحصار ثلاث سنوات عجافًا، حتى رقّ قلب بعض عقلاء قريش وانشقوا على أنفسهم، وتمزقت الصحيفة بأمر الله، فخرج المسلمون من الشعب محملين بأوجاع لا تنسى، وبعزم لا يُقهر.

لكن الخروج من شعب أبي طالب لم يكن نهاية الحكاية، بل بداية لنهج عالمي يُمارَس على المسلمين حتى يومنا هذا، حيث تحوّل الحصار الاقتصادي إلى سلاح شرعي في أيدي الطغاة ضد كل من يقول “لا إله إلا الله” بحزم وصدق. ففي العراق، تكرر المشهد في تسعينيات القرن الماضي، حين فُرض حصار خانق استمر لأكثر من 13 عامًا، أنهك البلاد وأفقر العباد، وقتل ملايين الأطفال دون ذنب إلا أنهم وُلدوا على أرض مسلمة. قالت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، حين سئلت عن موت نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار: “نعتقد أن الثمن يستحق ذلك”، في مشهد تلخص فيه لغة الغرب تجاهنا: إما أن تخضعوا، أو تموتوا جوعًا.

ورغم أن الزمن تبدل، لم يتغير الأسلوب. تطورت الأدوات، وزادت وحشية العقاب، لكن ظل المسلم هو المستهدف الأول. وتجلّت الصورة اليوم في أقبح أشكالها على أرض غزة، حيث يُفرض على أهلها حصار خانق لا يرحم، وتُقطع عنهم الكهرباء، والماء، والغذاء، والدواء، ويُمنعون من الصيد والزراعة، ومنع حتى دخول الدقيق وحليب الأطفال، في محاولة لا لكسر المقاومة فحسب، بل لكسر الحياة نفسها. غزة اليوم لا تُحاصر فقط من البر والبحر والجو، بل تُدفن حيّة تحت صمت دولي مريب وتواطؤ عالمي فجّ، يُجمِّل الجريمة باسم “الضغط السياسي” أو “الردع العسكري”.

يموت الأطفال في حضن أمهاتهم جوعًا وعطشًا، وتتآكل أجساد المرضى بلا علاج، وتتهدم البيوت فوق رؤوس الأبرياء، في ظل عقاب جماعي لا يُفرّق بين مقاتل ورضيع. إنها ليست مجاعة طبيعية، بل إبادة ممنهجة، تستخدم فيها الصهيونية أقذر ما في جعبتها من أدوات لتدمير الإنسان الفلسطيني وإخضاعه، حتى وإن أبادته بالكامل.

إن ما يجري اليوم في غزة ليس استثناءً، بل هو امتدادٌ لحصار متسلسل لم ينقطع على مرّ القرون. كلما رفع المسلمون رؤوسهم، اجتمع الطغاة على تجويعهم، وكلما نطقوا بالحق، صمّ العالم أذنيه وفتح أبواب الجوع والعزلة والموت في وجوههم. إنها مأساة الحصار الممتد، من شعب أبي طالب إلى غزة، مأساة لا تنتهي إلا إذا نهضت الأمة وأدركت أن سلاح التجويع لا يُكسر بالاستجداء، بل بالصبر والصمود والوحدة.

فالحصار ليس فقط حرمانًا من الغذاء، بل محاولة خبيثة لحرماننا من الكرامة، ومن صوتنا، ومن حقنا في الحياة. وأعداء الأمس هم ذاتهم أعداء اليوم، لا يغيّرون وجوههم وإن غيروا أسماءهم، ولا يتبدل حقدهم وإن تبدلت شعاراتهم. لكن كما انتهى حصار شعب أبي طالب بانتصار كلمة الحق، سينتهي حصار غزة بإذن الله بانتصار الدم على السيف، والحق على الباطل، وستبقى غزة، وإن جاعت، منارة الصمود في وجه أشرس احتلال عرفه التاريخ.

ويبقى السؤال لكل من يملك قلبًا: متى ينكسر هذا الحصار الجاثم على صدر الإنسانية؟ ومتى يثور العالم لأجل أطفال يموتون بلا سبب إلا لأنهم مسلمون؟

اترك تعليقاً