العودة إلى التصوف الأصيل: بين ضجيج الردود وهدوء التربية

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي


الحمد لله الذي خلق الأرواح وعلّمها السمو، والصلاة والسلام على من زكّى النفوس وربّاها، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.

مقدمة:
ما أحوجنا في هذا العصر المتسارع المتخم بالماديات، أن نعود إلى ينابيع الروح، ومواطن السكينة، ومراسي القلوب، التي لطالما وجدها المسلمون في التصوف الأصيل. التصوف الذي هو لبّ الإسلام وروحه، لا غلوّ فيه ولا ابتداع، وإنما هو عودة صادقة إلى تزكية النفس وتطهير القلب، والسمو فوق الشهوات، والارتباط الدائم بالله.

لكن – وللأسف – انجرّ بعض المنتسبين للتصوف في العقود الأخيرة إلى معارك دفاعية وجدلية، خاصة في ظل حملات النقد والتشويه المتكررة، فانشغلوا برد الشبهات والاتهامات، وابتعدوا عن مهمتهم الأسمى: الدعوة إلى الله بالتربية الروحية، والإصلاح الأخلاقي، وتزكية القلوب.

أولًا: أسباب الانجرار إلى المعارك الدفاعية:

يمكن تلخيص أبرز الأسباب التي جعلت بعض المنتسبين للتصوف يبتعدون عن المنهج التربوي إلى الجدال والدفاع في الآتي:

1. كثرة الهجمات الفكرية على التصوف: لقد تعرّض التصوف لتشويه ممنهج من قبل تيارات دينية متشددة أو منحرفة، وصُوّر على أنه خرافة أو بدعة، مما دفع كثيرًا من محبيه إلى خوض معارك لرد هذه الاتهامات.

2. ضعف التأصيل العلمي عند البعض: أدى غياب الفهم العميق للتصوف ولأصوله، إلى ردود أفعال غير مدروسة، وتقديم خطابات عاطفية أو سطحية، بدلاً من العودة إلى التربية الروحية العميقة.

3. تأثير منصات الإعلام والتواصل الاجتماعي: حيث باتت الساحة الدينية تتأثر بالإثارة والانفعالات، مما دفع بعض الدعاة الصوفيين إلى خوض الجدل بدلًا من نشر الذوق، والسكينة، والتربية.

ثانيًا: مقترحات عملية لاستعادة التصوف الحقيقي:

للخروج من هذا الانزلاق، هناك حاجة ماسة للرجوع إلى التصوف كما كان في بداياته، كما عاشه السلف الصالح من أمثال الإمام الجنيد، والشيخ عبد القادر الجيلاني، والإمام أبو الحسن الشاذلي. ويمكن تحقيق ذلك عبر الخطوات التالية:

1. العودة إلى المنهج التربوي الصوفي: وهو منهج يركز على تزكية النفس، ومجاهدة الهوى، ودوام الذكر، وحسن الخلق. لا على الخلافات ولا المعارك الكلامية.
2. إعداد كوادر علمية تربوية: من الضروري إعداد دعاة صوفيين يجمعون بين العلم الراسخ، والذوق الصافي، والحكمة في الدعوة، والقدرة على مخاطبة الإنسان بلغة العصر.
3. نشر النماذج التطبيقية الحية: من خلال إبراز مواقف المتصوفة الحقيقيين في خدمة الناس، والتواضع، والصبر، والرحمة، والتسامح، كوسيلة لإعادة بناء الصورة الذهنية الإيجابية عن التصوف.
4. التركيز على خطاب السكينة والسلام الداخلي: الناس اليوم بحاجة إلى خطاب يبعث فيهم الطمأنينة، لا خطاب يملؤهم صراعًا وجدالًا. فالعبرة ليست بكثرة المتابعين، بل بعمق الأثر في النفوس.

ثالثًا: حاجة الناس اليوم إلى التصوف الأصيل:

إن الناس في هذا الزمان لا ينقصهم الكلام، ولا تعوزهم المحاضرات الجدلية، بل إنهم يعانون من ظمأ روحي لا يُروى إلا بجرعة من نور التصوف الأصيل:

1. العطش لمعاني القرب من الله: في زحام الدنيا، يحتاج الناس إلى من يوقظ قلوبهم، ويربطهم بالله، ويُعلّمهم كيف يذوقون لذة الذكر والصلاة والخلوة مع الله.

2. الفراغ الأخلاقي والتربوي: التصوف الأصيل هو طريق بناء الأخلاق، وتزكية الضمير، وصناعة إنسان متوازن، رحيم، صادق، حليم، وهي الصفات التي بها تنهض المجتمعات.

3. القلق والضياع النفسي: كم من شاب تائه يبحث عن معنى، وعن طريق، وعن حب حقيقي لله، ولن يجده إلا في طريق التصوف الذي يُربّي على الإخلاص، ويغرس في القلب حلاوة القرب من مولاه.

خاتمة:
لقد آن الأوان أن يتحرر الخطاب الصوفي من قفص الدفاع والجدل، ويعود إلى رسالته العظمى: تزكية النفس، ومحبة الله، وإحياء القلوب. فهذا هو ما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أحيا به السلف الأمة، وهذا هو طريق النجاة في عالم فقد روحه، وركض خلف المظاهر.

فيا أهل التصوف، أعيدوا للناس الذوق، والصفاء، والمعنى، واتركوا المعارك لأهلها، وكونوا أنتم رُسُل السكينة في زمن الضجيج.

اترك تعليقاً