الإلحاد الروحي والغنوصية الباطنية في ثوبها الجديد
14 مايو، 2025
العلمانية وغزو بلاد العرب

بقلم الأستاذ : أحمد سعيد قحيف
نحن اليوم أمام موجة فكرية خطيرة تجتاح المجتمعات، لا ترفع راية الإلحاد الصريح ولا تتوشح برداء المادية الجامدة، بل تُقدِّم نفسها كطريقٍ إلى “النور”، و”الوعي”، و”الشفاء الداخلي”، بينما هي في حقيقتها امتداد للغنوصية الباطنية القديمة، وقد لبست عباءة العصر الحديث.
هذه الحركة، التي تعرف عالميًا باسم “العصر الجديد” (New Age)، لا تدعو إلى عبادة الأصنام أو الكواكب كما كانت تفعل الفرق القديمة، لكنها تدعو إلى “الاتصال بالكون”، و”تنشيط الشاكرات”، و”فتح العين الثالثة”، و”استقبال طاقة الريكي”، و”التحرر من الأنا”، و”الدخول في الذبذبات العليا” – وكلها مصطلحات براقة تخفي وراءها فلسفات منحرفة عن أصل التوحيد.
تحوّل في أدوات الشيطان
الشيطان في هذا العصر لم يعد بحاجة إلى تحضيرات وطلاسم وأبخرة، بل دخل من باب “الوعي” و”الطاقة” و”الاستشفاء الروحي”. إنه التلبّس الفكري لا الجسدي، والغواية عبر مفاهيم ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
ويكفي أن نعلم أن من أسرع “الديانات” انتشارًا اليوم ليست ديانات سماوية، بل منظومات روحية جديدة، لا تعترف بإله خالق، بل تستبدله بـ”الطاقة الكونية”، وتُقصي الوحي لصالح “الإله الداخلي”، وتُحِلّ الحدس مكان النبوة، وتُقدّس الذات فوق الشريعة.
الباطنية الجديدة: الوجه المعاصر للغنوصية القديمة
إن الغنوصية القديمة (Gnosticism) كانت تقوم على دعوى “المعرفة الباطنة” التي لا تُنال إلا لخواص الخواص، وتحتقر ظاهر الشريعة، وتزعم أن الحقيقة لا تُدرك بالنصوص، بل بالكشف والذوق. وهذا بعينه ما تقوله اليوم حركات العصر الجديد: لا حاجة للكتب السماوية، لأن “الوعي الأعلى” يُكلمك، ولا تتبع الشريعة، بل “استمع لصوتك الداخلي”.
وقد تصدى الإمام أبو حامد الغزالي لهذه الفرق الضالة في كتابه القوي “فضائح الباطنية”، وبيّن كيف أن الباطنية والغنوصيين يدّعون أن لكل نصّ ظاهرًا لعامة الناس، وباطنًا لا يعرفه إلا “المستنيرون”، مما يفتح الباب لهدم الدين كله باسم التأويل.
قال الغزالي:
“فإذا صدقهم الناس في دعواهم أن لكل ظاهر باطنًا، ولم يكن للباطن ضابط إلا ما يدّعيه كل أحد، استوى المعلم والمتعلم، وبطل الاحتياج إلى الأنبياء والرسل.”
(فضائح الباطنية، ص 65)
وقد حذّر الغزالي أيضًا من تأليه النفس ورفعها فوق الوحي، وهذا ما تفعله تمامًا برامج العصر الجديد التي تدعو الإنسان إلى أن يكون هو “الإله”، أو “الكون المصغّر”، أو أن يتصل بـ”الوعي الكوني المطلق”.
السكوت عن الخطر ليس حيادًا
إن الخطر الأكبر اليوم لا يكمن فقط في انتشار هذه المفاهيم، بل في غفلة كثير من الدعاة عنها. لقد تغيّرت أدوات الشيطان، لكنه ما زال يسلك نفس الطريق: التضليل والتزيين. ويؤسف أن بعض الدعاة لا يزال يخوض معارك الأمس، ويتجاهل جبهات الغزو الفكري الجديد، في الوقت الذي تُسرق فيه عقول الشباب من خلال “كورس”، أو “جلسة طاقة”، أو “تأمل موجّه”.
دعوة للتأصيل واليقظة
على طلاب العلم والدعاة اليوم أن يدرسوا هذه الموجات الجديدة بوعي، وأن يقرأوا ردود العلماء الكبار كالغزالي، الذين كشفوا شبهات الغنوصيين والباطنيين، وبيّنوا خطر فصل الدين عن الشريعة، والوحي عن الحقيقة.
كما يجب أن يُنتج خطاب إسلامي جديد، يجمع بين العقل والروح، والعلم والذوق، والشريعة والحقيقة، حتى لا يُترك الشباب فريسةً لهذه البدائل المضللة.