جواز التوسل والاستغاثة وطلب المدد بالأنبياء والأولياء
14 مايو، 2025
شبهات حول قضايا التصوف

بقلم الدكتور : محمد لطفي الحسني
شيخ الطريقة القادرية البريفكانية في مصر
يكثر الجدل في عصرنا حول مشروعية التوسل، والاستغاثة، وطلب المدد من الأنبياء والأولياء، سواء أحياءً أو بعد وفاتهم. وينظر بعض الناس إلى هذه الأمور على أنها شرك أو بدعة، بينما هي في حقيقة الأمر من مسائل الخلاف الاجتهادي بين أهل العلم، وقد أثبت كثير من علماء أهل السنة والجماعة جوازها بشروط وضوابط، معتمدين على النصوص الشرعية وفهم السلف.
في هذا المقال، نعرض تعريفًا دقيقًا لهذه المفاهيم، ونبين مشروعيتها بالأدلة الشرعية وأقوال الأئمة، مع توثيق علمي من كتب معتمدة.
أولًا: تعريف المصطلحات
• التوسل: اتخاذ وسيلة مشروعة للتقرب إلى الله تعالى، كأن يقول: “اللهم بجاه نبيك محمد ﷺ، أو بحق فلان من عبادك الصالحين، اغفر لي”.
• الاستغاثة: طلب الغوث والمساعدة عند الشدة. وقد تكون مادية أو معنوية. فإن كان الغوث مطلوبًا من الله وحده استقلالًا، أو من عبد صالح بإذن الله أو على وجه الوسيلة، فهي مشروعة.
• طلب المدد: بمعنى طلب المعونة والتقوية الروحية من نبي أو ولي، على وجه السببية وليس الاستقلال، كقولهم: “يا رسول الله، مددًا”، أي سألوا الله أن يمدهم من فيضه بسبب جاه النبي ﷺ.
ثانيًا: أدلة مشروعية التوسل
حديث الضرير:
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَنِي، قَالَ: ” إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَاكَ، فَهُوَ خَيْرٌ “. فَقَالَ: ادْعُهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ، فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ، فَتَقْضِي لِي، اللهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ.
(مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد – وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1421 هـ – 2001 م، ج28، ص٤٧٨، رقم ١٧٢٤٠)
وحديث الضرير ذكره ابن ماجه في سننه/1385، والترمذي في سننه/3895، وابن خزيمة في صيحه/1219، والحاكم في المستدرك/1180.
وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
التوسل بغير سيدنا رسول الله ﷺ
عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ فَيُسْقَوْنَ». (صحيح البخاري، البخاري، تحقيق جماعة من العلماء، الطبعة السلطانية بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر 1311 هـ، ج2، ص27، رقم ١٠١٠)
وهناك من يعتبر أن هذا دليل على عدم جواز التوسل بسيدنا رسول الله ﷺ بعد وفاته لكن هذا الكلام خطأ فقد توسل الصحابة بسيدنا رسول الله ﷺ بعد وفاته
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ مَالِكِ الدَّارِ، قَالَ: وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ عَلَى الطَّعَامِ، قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: ” ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مُسْتَقِيمُونَ وَقُلْ لَهُ: عَلَيْكَ الْكَيْسُ، عَلَيْكَ الْكَيْسُ “، فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ لَا آلُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ.
(المصنف، ابن أبي شيبة الكوفي، مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1409 هـ – 1989م، ج6، ص ٣٥٦، رقم ٣٢٠٠٢)
وكذلك التوسل في عام الفتق
حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوْزَاءِ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قُحِطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَحْطًا شَدِيدًا، فَشَكَوْا إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: ” انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْعَلُوا مِنْهُ كِوًى إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَقْفٌ. قَالَ: فَفَعَلُوا، فَمُطِرْنَا مَطَرًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ، وَسَمِنَتِ الْإِبِلُ حَتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ، فَسُمِّيَ عَامَ الْفَتْقِ
(مسند الدارمي، الدارمي التميمي السمرقندي، تحقيق حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1412 هـ – 2000 م، ج1، ص ٢٢٧، رقم93)
ومن عجائب المعترض أنه كلما جئت له بدليل يخرج باعتراض فهناك من يقول هذا الأمر خاصا بسيدنا رسول الله ﷺ فقط فسوف نضع لهم الدليل على أن سيدنا رسول الله ﷺ توسل بالسابقين عند دفن السيدة فاطمة بنت أسد رضي الله عنها
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ أُمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا فَقَالَ: «رَحِمَكِ اللهُ يَا أُمِّي، كُنْتِ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي، وتُشْبِعِينِي وتَعْرَيْنَ، وتُكْسِينِي، وتَمْنَعِينَ نَفْسَكِ طَيِّبًا، وتُطْعِمِينِي تُرِيدِينَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ» ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُغَسَّلَ ثَلَاثًا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ الَّذِي فِيهِ الْكَافُورُ سَكَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ خَلَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ فَأَلْبَسَهَا إِيَّاهُ وَكَفَّنَهَا بِبُرْدٍ فَوْقَهُ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَأَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَغُلَامًا أَسْوَدَ يَحْفُرُونَ فَحَفَرُوا قَبْرَهَا فَلَمَّا بَلَغُوا اللَّحْدَ حَفَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، وَأَخْرَجَ تُرَابَهُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَاضْطَجَعَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ، ولَقِّنْهَا حُجَّتَها، وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا، بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، وأَدْخَلُوها اللَّحْدَ هُوَ وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ
(المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، الطبعة الثانية، ج24، ص ٣٥١، رقم 871)
وهناك من ضعف الحديث لوجود روح بن صلاح وقد وثقه ابن حبان والحاكم
ثالثًا: مشروعية الاستغاثة وطلب المدد
عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ” إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ ” وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ
(المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، الطبعة الثانية، ج17، ص ١١٧، رقم290)
وَرِجَالُهُ وُثِّقُوا عَلَى ضَعْفٍ فِي بَعْضِهِمْ، إِلَّا أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ لَمْ يُدْرِكْ عُتْبَةَ
أقوال العلماء في جواز التوسل:
المذهب الحنفي: جاء في [فتح القدير 3/ 181] للكمال ابن الهمام رحمه الله: “ ويسأل اللَّه تعالى حاجته متوسلا إلى اللَّه بحضرة نبيه عليه الصلاة والسلام، وأعظم المسائل وأهمها سؤال حسن الخاتمة والرضوان والمغفرة، ثم يسأل النبي الشفاعة فيقول. يا رسول اللَّه أسألك الشفاعة، يا رسول اللَّه أسألك الشفاعة وأتوسل بك إلى اللَّه في أن أموت مسلما على ملتك وسنتك ”.
المذهب المالكي: قال ابن الحاج المالكي رحمه الله في كتاب [المدخل 1/ 259]: “ فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار وأثقال الذنوب والخطايا؛ لأن بركة شفاعته عليه الصلاة والسلام وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، إذ إنها أعظم من الجميع، فليستبشر من زاره ويلجأ الى اللَّه تعالى بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام مَنْ لم يزره، اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك. آمين يا رب العالمين، ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم، ألم يسمع قول اللَّه عز وجل: {وَلَو أَنَهُم إذ ظلموا أَنفُسَهُم جاءُوك فاستغفروا اللَّه واستغفرَ لهُمُ الرسولُ لَوَجَدوا اللَّه تواباً رحيما} [سورة النساء]، فمن جاءه ووقف ببابه وتوسل به وجد اللَّه تواباً رحيماً، لأن اللَّه عز وجل منزه عن خُلْف الميعاد، وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد للدين معاند للَّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، نعوذ باللَّه من الحرمان”.
المذهب الشافعي: يقول الإمام النووي رحمه الله في كتاب [الأذكار/ ص205]، في معرض حديثه عن آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم: “ ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيتوسل به في حقّ نفسه، ويتشفَّع به إلى ربه سبحانه وتعالى ”.
المذهب الحنبلي: قال الإمام المرداوي رحمه الله في كتاب [ الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 2/ 456]: “ ومنها: يجوز التوسل بالرجل الصالح، على الصحيح من المذهب، وقيل: يستحب، قال الإمام أحمد: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه وجزم به في المستوعب وغيره، وجعله الشيخ تقي الدين كمسألة اليمين به، قال: والتوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته والصلاة والسلام عليه، وبدعائه وشفاعته، ونحوه مما هو من فعله أو أفعال العباد المأمور بها في حقه: مشروع إجماعاً، وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35]”.