قيمة الوقت عند الصوفية: اللحظة بين الفناء والبقاء
2 مايو، 2025
منهج الصوفية

بقلم فضيلة الشيخ : مخلف العلي القادري الحذيفي
خادم الطريقة القادرية البريفكانية العلية
الوقت في عيون الصوفية ليس مجرد تيار يجرف الأحداث ويطوي الصفحات، بل هو نفحة ربانية، وأمانة سماوية مودَعة في يد الإنسان، يُسأل عنها كما يُسأل عن رزقه وعمره وعلمه.
وكيف لا؟
وقد نطق الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم بقوله الشريف: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه…» (رواه الترمذي).
لقد أيقن القوم أن العمر رأس مالهم، وأن اللحظة هي بذرة الخلود، فكان الوقت عندهم مضمار السير وميدان التزكية.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كلمة سارت بها الركبان: «تعلمت من الصوفية أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» (غذاء الألباب).
ففي كلمته هذه تتجلى فلسفة التصوف بأبهى صورها: اللحظة ليست مجرد وقت، بل هي سيفٌ ماضٍ، إمّا أن تشقّ به طريق القرب، أو يطيح بك في وديان الغفلة.
والزمن عند الصوفيين حبل مشدود بين الأرض والسماء، كلما صعد فيه العبد بالذكر والطاعة، انحلت عنه قيود النفس.
واسمع إلى الإمام أبو العباس المرسي رضي الله عنه كيف لخص المنهج حين قال: «ليس الإنسان ابن ما يرجوه، إنما هو ابن ما يفعله، والزمان لا ينتظرك» (إيقاظ الهمم).
فيا لها من إشارة دقيقة! فالأماني بلا عمل سراب، واللحظة العابرة قد تكون فرصتك الأخيرة، فكل دقيقة هي مرآة لصدق السالك ومصداقية الطريق.
وفي سطور الحسن البصري رحمه الله، نلمس بكاء القلب حين قال: «يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك» (قصص الزهاد).
كلمة هزّت أعمدة القلوب، فما إن يشرق الصباح حتى يدنو العبد من قدره المحتوم، وكأن كل يوم هو قطعة تُنتزع من كيان الإنسان. لذا بكى الصوفية هذه الحكمة كما يُبكى الفقد الجلل.
ومن بين أسطر الكتب ينبثق نور الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس سره، إذ قال: «أعز الأشياء عليك وقتك، فإذا أضعته أضعت سعادتك» (الفتح الرباني).
لقد أدرك أهل الله أن السعادة ليست وليدة المصادفة، بل هي ثمرة استثمار العمر فيما يرضي الله. الوقت عندهم ليس مجرد إطار زمني بل هو وعاء البركات، لا يملؤه إلا ذكر الله وعمل الخير.
لم يكن حديثهم عن الوقت مجرد أقوال تُحكى، بل سلوك يُترجم، فقد عُرفوا بمحاسبة أنفسهم على اللحظة كما يُحاسب التاجر على الدرهم، بل تجاوزوا ذلك إلى مراقبة أنفاسهم وخطواتهم، خشية أن تمر لحظة فارغة من المعنى.
يقال عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله: «إن الله سبحانه أعطاك عمراً طويلاً، فانظر في أي شيء قضيته؟» (صفة الصفوة)،
فهذه وصية تفتح باب التأمل في رحلة الحياة من المهد إلى اللحد.
ولم تزل وصايا المشايخ تردد في أسماع المريدين: «إياكم أن يخرج نفس من صدوركم إلا وفيه ذكر لله».
نعم هذه الوصية هي لبّ التصوف وروحه، أن يصبح الذكر حالة دائمة تملأ القلب وتغمر الروح، حتى يصبح الإنسان في حضرة الله دائمًا، حاضر القلب والوجدان.
وهكذا نجد أن فلسفة الوقت عند الصوفية مدرسة في الحياة قبل أن تكون دروساً في الأوراق، إنها دعوة للاستيقاظ من سبات الغفلة، وتذكير بأن هذه الحياة مزرعة الآخرة، فكل لحظة تُنبت زرعًا إمّا من نور أو من ظلمة.
ومن أدرك أن اللحظة هي مفتاح البقاء، سار على نهج العارفين، الذين عرفوا أن الوقت هو الحياة، والحياة مرآة وجه الله في قلب عبده إذا استقام في حضرته.
ولعل من أبلغ الفروق بين الصوفية الأوائل ومن جاء بعدهم أننا نجدهم قد أدركوا عظمة الوقت فحفظوه كما يُحفظ الجوهـر، فكانوا يغتنمون كل لحظة في الطاعة والذكر والمجاهدة، فلم تخيبهم الثمار ولا جفت لهم الغراس.
أما نحن، فقد ضيّعنا أعمارنا بين غفلة وتسويف، فتبدّدت أوقاتنا سُدى، وغابت عنا بركات اللحظة، فشتّان بين من عرف قيمة الزمن فعاشه لله، وبين من أضاعه فضاعت معه الثمار والنتائج.
اللهم اجعل أوقاتنا مزهرة بذكرك، وقلوبنا عامرة بطاعتك، وأعمارنا شاهدة لنا بين يديك، ولا تجعل لحظة من لحظاتنا تمضي إلا ونحن في ظل رضاك، يا أكرم الأكرمين.