المدارس الأجنبية .. وطمس الهوية!

بقلم: خادم الجناب النبوي الشريف
د/ محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف

لا زلت أذكر أولى جلسات محاكمة مسؤول كبير سابق، وأنا أنظر إلى القاضي الكبير في السن والمقام وهو لا يقيم جملة صحيحة، ويخطئ في تلاوة القرآن، وكنت أتعجب لذلك؛ لأنه من الجيل القديم الذي تربى في الكتاتيب، لكن بعضهم صحح لي هذا التصور، بأن بعض أبناء هذا الجيل القديم أيضا كانوا من خريجي المدارس الأجنبية!

إن تسابق الناس على إلحاق أبنائهم بالمدارس الأجنبية، بغية ضمان وظيفة مرموقة لهم في سوق العمل؛ لهو أحد أسباب طمس الهوية العربية والإسلامية للجيل الحالي وللأجيال القادمة، حتى إن كثيرا من أبناء هذا الجيل صارت عندهم لكنة العجم، فلا يستطيعون الكتابة بالعربية، ويتحدثونها بصعوبة، ومنهم من لا يحفظ آية من القرآن، بل ولا يستطيع القراءة في المصحف!

وبقدر ما نؤمِّن لأبنائنا وظيفة مرموقة، عن طريق التعليم الأجنبي؛ بقدر ما نحرمهم من نعمة القرآن الذي استعجم عليهم لفظا ومعنى؛ بسبب إتقانهم للغات الأجنبية، وتفريطهم في تعلم اللغة العربية التي هي لغة القرآن، ومتى استعجم القرآن على أبناء المسلمين؛ أصبح من السهل غزوهم فكريا عن طريق اللغات الأخرى، بسبب فقدان الحصانة، ولا ينكر ذلك إلا مكابر!

وأمثال هؤلاء الأبناء سيصبحون هجينا، ما هم بعرب ولا هم بعجم، وسيكونون حلقة الوصل الآمنة، لتسريب الثقافات المنحرفة إلى ديار الإسلام!

ونحن في الحقيقة لا نجني لهم وظيفة مرموقة عن طريق التعليم الأجنبي، وإنما نجني عليهم، بل نجني على أمة بأكملها، ولسان حالهم يردد ما قاله أبو العلاء، وأَوْصَى أن يُكتب على قبره:

هذا جَناهُ أبِي عليَّ

وما جنيتُ على أَحَدْ!

وقد كانت البيوتات العربية القديمة ترسل أبناءها الرضع والأطفال إلى البادية؛ لتنشئتهم على اللغة العربية الفصحى، وتعويدهم على النطق السليم بها، بعيدا عن المؤثرات اللغوية التي كثيرا ما توجد في الحضر، بحكم الاختلاط بالأجانب، وإنما يفعلون ذلك اعتزازا بلغتهم، التي نزل بها القرآن الكريم، كلمة الله الخاتمة!

أما اليوم ومع الهزيمة الحضارية التي مُنِيَ بها العرب على مستوى كل الأصعدة؛ أصبحت كثير من البيوتات والأسر العربية تتباهى بتعليم أبنائها في المدارس الأجنبية، ويتفاخر الكثير منهم بأنهم يجيدون العديد من هذه اللغات، بينما لا يعرفون كبير شيئ عن لغتهم الأم، في الوقت الذي تعتز به كثير من شعوب العالم بلغاتها، وتفرض على المقيمين بها ألا يتحدثوا بسواها، وإلا تعطلت مصالحهم!

وقد صارت دول الخليج العربي الآن – وهي مهبط الرسالة ومهد العربية – مرتعا لكثير من اللغات الشرقية والغربية، حتى كاد أهل هذه البلاد الأصلاء يهجرون لغتهم، بعدما أصابتهم لكنة العجم!

ومما كتبته قديما في هذا المعنى، تحت عنوان: ((يوسفُ أَعْرِضْ عن هذا!)).

“الأخ يوسف الحسيني، عضو مجلس النواب المصري، الذي اعترض على الاقتراح الذي أبداه عميد كلية اللغة العربية في الجامعة الأزهرية، أمام لجنة الإعلام بمجلس النواب، بأن يتم التوسع في تحفيظ القرآن الكريم وتلاوته لطلاب المرحلة الابتدائية العامة، تقويما لألسنتهم، وحفاظا على الهوية العربية من الأخطار التي تتهددها، بحجة أن معهم تلاميذ أقباطا!

نقول له: إن حفظ القرآن الكريم في الصغر؛ لا يقتصر على الغاية الدينية فقط، بل له غايات أخرى، لها تعلق بالتعليم والثقافة واللغة والفكر والأمن القومي للبلاد!

فمن المعروف الثابت المجرب؛ أن حفظ القرآن الكريم يقوِّم اللسان، ويهذب الوجدان، ويقوي الذاكرة، وينور العقل، ويصحح الفهم، ويسعف بالحجة!

وقد كان أكثرنا تفوقا في الدراسة؛ أكثرنا حفظا للقرآن الكريم، وكان الطلاب الذين التحقوا بالقسم العلمي، ثم دخلوا كليات الطب والصيدلة والهندسة، ثم عينوا معيدين، إلى أن صاروا أساتذة؛ من حفظة كتاب الله تعالى، وكان ذلك من أسرار تفوقهم الدراسي!

وقد كانت مادة المطالعة قديما تحتوي على نصوص مختارة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وعيون الشعر والنثر العربي!

ولقد أتت حقبة على مصرنا العزيزة كان يُسمح فيها لأطفال غير المسلمين بحفظ القرآن الكريم، جنبا إلى جنب مع أطفال المسلمين؛ لما لحفظه من فوائد على اللغة والفكر والثقافة، ومن أشهر من حفظ القرآن الكريم على هذا النحو من أفاضل الأقباط الدكتور الحقوقي الفيلسوف نظمي لوقا جرجس، حفظه وعمره تسع سنوات، في مدينة السويس، مسقط رأسه، كما حكاه عن نفسه، أظنه في كتابه العظيم [محمد الرسالة والرسول]!

وكان الأستاذ مكرم عبيد المحامي المشهور، والوطني الغيور؛ يكاد يحفظ القرآن الكريم، وكان يكثر من الاستشهاد به في خطبه ومرافعاته – ولا زالت مرافعاته حتى اليوم مما يثير الإعجاب والدهشة – حتى كان القاضي عزيز فهمي يسأله حين يراه يستشهد بآيات من القرآن: “هل أنت مقتنع بما تقول؟!”، فيجيبه قائلا: “واجبي أن أقنع عدالتكم!”.

ورأيت شيخنا محمدا الغزالي – رحمه الله – يثني عليه في غير موضع من كتبه!

وكان من بين أقواله الخالدة التي تدل على وطنيته الصادقة؛ “اللهم رب المسلمين والنصارى، اجعلنا لك مسلمين وللوطن أنصارا!”.

وهو صاحب المقولة الشهيرة: “مصر ليست وطنا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا!”.

فهل ترى مثل هذه الفصاحة والبلاغة والثقافة؛ إلا ومضة من ومضات إشراق أنوار القرآن؟!”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *