خطبة بعنوان «ونغرس فيأكل من بعدنا» ج٢ لفضيلة الشيخ أحمد عزت حسن

خطبة بعنوان «ونغرس فيأكل من بعدنا» ج٢
أو حديث القرآن والسُنَّة عن الزراعة
لفضيلة الشيخ : أحمد عزت حسن

خطبة الجمعة ٤ من ذي القعدة ١٤٤٦هـ الموافق ٢ من مايو ٢٠٢٥م

الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد.

فإن من نعم الله تعالى على عباده نعمة الأرض التي فرشها الخالق بين أيديهم وجعلها قرارًا، وأجرى في مناكبها عيونًا وأنهارًا، فأنبتت زروعًا وثمارًا، بعد أن أرسل الله السماء مدرارًا.،

ولقد حثَّ الإسلام على الزرع والغرس، أو بعبارةٍ معاصرة: “حثَّ على زيادة الغطاء الشجري والمساحة الخضراء”، وقد أفادت هذا آيات القرآن ونصوص السُّنَّة وفعل السلف الصالح وأقوال العلماء.

وإذا ذهبنا لنفتح كتاب ربنا جلا وعلا وسنة نبينا ﷺ لوجدناهما قد حفلا بالحديث الوافر عن هذا الموضوع
فأعيروني القلوب والأسماع؛ لعل الله يجعل في حديثي إليكم جديدًا، فنقول وبالله التوفيق:

أولًا: حديث القرآن الكريم عن الزراعة
١- إن الزراعة مهنة من أجلِّ المهن، وآية من آيات الله، وسبيل لترسيخ الإيمان في القلوب، ودليل على وحدانية الله عز وجل، وجاءت في معرض الامتنان بالزرع والإنبات؛ فمن هذا قول الله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ . أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: ٦٣-٦٤].

** ومن ذلك الآيات التي تحث على الانشغال بالزراعة والغراسة، وتبين فضلها ومكانتها في الشريعة الإسلامية
قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ ‌الْأَرْضُ ‌الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ . وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ . لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ .﴾ يس: ٣٣-٣٥.
قال ابن كثير: “ومن المظاهر الدالة على وجود الصائع وقدرته التامة و إحيائه الموتى، الأرض الميتة” أي كانت هامدة ميتة لاشيء فيها من النبات، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ ‌أَحْيَيْنَاهَا ‌وَأَخْرَجْنَا ‌مِنْهَا ‌حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾، أي جعلنا رزقًا لهم ولأنعامهم، وقال: ﴿‌وَجَعَلْنَا ‌فِيهَا ‌جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ . لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ أي جعلنا فيها أنهارًا سارحة في أمكنة يحتاجون إليها.

٣- تعدد أنواع الزرع آية من آيات الله: فهذا حَب، وهذا ثمر، وهذا زهر، وهذا عشب، وهذه فاكهة وهذه خضر، وهذا معروش، وهذا غير معروش، فقد لفت الأنظار إلى نعمة الله بإعداد الأرض للزراعة بواسطة نزول المطر: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ ‌إِلَى ‌طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا . فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا . وَعِنَبًا وَقَضْبًا . وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا . وَحَدَائِقَ غُلْبًا . وَفَاكِهَةً وَأَبًّا . مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ .﴾. عبس: ٢٤ إلى ٣٢.

٤- اختلاف ألوان الزرع وأشكاله آية من آيات الله: يقول عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ٩٩].

٥• الزرع دليل حي على زوال الدنيا: قال عز وجل: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٢٤].
إن هذا المثل يضربه الله عز وجل للإنسان في الدنيا يبدأ الإنسان ضعيفًا، ثم يشتد عوده ويصل إلى مرحلة الشباب ويظن الشاب أنه سيعيش أبدًا، وأنه يستطيع أن يفعل كذا وكذا، وهذا قول الله عز وجل: ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ ثم يصل الإنسان إلى الشيخوخة ويكبر ويَعجِز، ويصير كالزرع الذي اصفرَّ ثم صار حصيدًا؛ أي: كأن الإنسان لم يعش في هذه الدنيا إلا ساعة، إنه الموت؛ قال الشاعر:
زهرة الدنيا وإن أينعت لا بد أن تسقى بماء الزوال

٦• الزراعة لها علاقة وثيقة بفرائض الله وبذكر الله عز وجل:
– فالزرع يسبح الله ويذكره:﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء ٤٤].

– والزرع يصلي: قال عز وجل: ﴿ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴾ [الرحمن ٦].

– والزرع فيه زكاة:
﴿وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام ١٤١].

– والزرع فيه صوم وامتناع:
فكما يمتنع المسلم الصائم عن الطعام والشراب وسائر المفطرات، كذلك على الزارع أن يمتنع عن زرع الخبيث من الزراعات كالبانجو والأفيون والخشخاش وغيرها، ومن فعل ذلك فقد بدَّل نعمة الله: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة ٢١١].

– والزرع له علاقة بالحج؛ حيث يحرم على الحاج أن يقتلع شيئًا من زرع مكة، روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “حَرَّمَ الله مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ” [البخاري].

٧• الزراعة مدرسة للأخلاق:

تعلمنا الزراعة مجموعة من مكارم الأخلاق؛ منها:

– الأمانة:
ففي يد المزارع أمانة هي قوام الحياة للناس جميعًا، وهذه الأمانة يجب رعايتها، لقد كانت سببًا في نجاة بلاد من الفقر والقحط الشديد، هذا سيدنا يوسف يفسر رؤيا عزيز مصر التي أزعجته: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف ٤٧-٤٩]. فلما نفذوا ما نصحهم به نجوا بإذن الله.

– إغاثة الملهوف:
لقد كان الزرع إغاثة ليونس عليه السلام بعد أن التقمه الحوت، ثم لفظه إلى شاطئ البحر، أغاثه الله بنبات اليقطين ليعيد إليه عافيته: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ . وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ [الصافات ١٤٥-١٤٦]، وكذلك كان الرطَب إغاثة لمريم عليه السلام:﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: ٢٥]، فعليك بإغاثة الملهوف.

– حفظ حدود الله:
فالحقول بينها حدود، والذي يحافظ على تلك الحدود ولا يعتدي عليها حافظٌ لحدود الله: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة ١١٢]، روى مسلم عن علي عن رسول الله ﷺ قَالَ: “لَعَنَ الله مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ” [مسلم].

– الشكر لله عز وجل وعدم جحود النعمة؛ لأن الإنسان يرى نعمة الله كل يوم بين يديه وهو يرعى زرعه فيدوم شكره لربه، وفي قصة صاحب الجنتين العبرة والمثل، فقد جحد نعمة الله ونصحه صاحبه المؤمن: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بالله ﴾ [الكهف: ٣٩]، ولما لم ينتصح كانت النتيجة ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾.

– حسن التوكل على الله عز وجل:
فالمزارع يخرج بعد صلاة الفجر متوكلًا على الله ولا يرجع إلا بعد غروب الشمس حامدًا ربه عز وجل، وهذا من حسن التوكل على الله سبحانه.

– التفاني في العمل والإنتاج:
يمكن أن نرى فئات كثيرة تقوم بما يسمى بالإضراب: أطباء / مدرسون / محاسبون / عمال…… إلا المزارع الذي لا يفكر أبدًا في إضراب أو امتناع عن العمل في حقله لأنه يعرف قيمته وأهميته في هذا المجتمع ويعلم الثواب العظيم له عند الله عز وجل؛ قال رسول الله ﷺ: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” [البخاري].

ثانيًا: حديث السنة النبوية عن الزراعة
وقد حفلت السنة الشريفة بالاحاديث الصحيحة التي تحث وتحض على الزرع والغرس، وتنوعت هذه الأحاديث من حيث دلالتها على هذا الامر في عدة اتجاهات وفقا لما يلي:

١* حثَّ النبيُّ ﷺ على الزرع والغرس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” [البخاري، ومسلم]. وزاد في رواية مسلم: “وَمَا سُرِقَ لَهُ مِنْهُ صَدَقَةٌ… وَلاَ يَرْزَؤُهُ [أي يأخذ منه وينقصه] أَحَدٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ”.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنَّ النبي ﷺ دخل على أمِّ مبشر الأنصارية في نخلٍ لها، فقال لها النبيُّ ﷺ: “مَنْ غَرَسَ هَذَا النَّخْلَ؟ أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ؟”. فقالت: بل مسلم. فقال: “لاَ يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلاَ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ وَلاَ دَابَّةٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ” [مسلم].
وهذا فضل كبير للغارسين والفلاحين، فهم يجنون أولا مختلف أنواع الإنتاج الفلاحي،
وثانيا يكون لهم الجزاء الأوفى في الآخرة؛ حيث يثيبهم الله من فضله على ما بذلوه من جهد، وعلى ما ساهموا به من رفع للمحصول الفلاحي، وكذا على مساهمتهم في الازدهار الاقتصادي وزيادة الدخل الوطني والاكتفاء الغذائي الذاتي، فينتفعون دنيا وأخرى”.
فما دام الزرع قائمًا فإنَّ زارعه يحصد أجرًا عن كلِّ من انتفع به، بل حتى عمَّن أنقص منه وسرق؛ بنصِّ الحديث، وفي الحديث أنَّ القائم على الزرع ولو لم يملكه هو المقصود بالأجر، قال ابن حجر: “وظاهر الحديث أنَّ الأجر يحصل لمتعاطي الزرع أو الغرس، ولو كان ملكه لغيره؛ لأنَّه أضافه إلى أم مبشر ثُمَّ سألها عمَّن غرسه”[فتح الباري ٥ /٤].
وقال السَّرَخْسِيُّ: “وفيه (أي الحديث) دليل أنَّ المسلم مندوبٌ إلى الاكتساب بطريق الزراعة والغراسة… فإنه يتوصَّل بهذا الاكتساب إلى الثواب في الآخرة” [السرخسي: المبسوط ٢٣ /٢٤].

وهذا حديث عظيم النفع به عشرات الفوائد ومن فوائده:
١- إنَّ غرس الشجر ليس من العبث، واللهو، وإنَّما فيه أجر وثواب من الله.
٢- الترغيب العظيم على اغتنام فرصة وجود الإنسان في هذه الحياة.
٣- الترغيب في زرع ما ينتفع به الناس بعد الموت؛ ليجري أجره للإنسان، وتُكتب له صدقته إلى يوم القيامة. 
٤- على المسلم ألاَّ يتوانى في عمل الخير.
٥- على المسلم أن يكون إيجابيًا، منتجًا، وفاعلا في حياته، ومجتمعه.

* وصرَّح النبيُّ ﷺ بأنَّ الغرس من الأعمال التي تبقى للرجل بعد موته، فعن أنسٍ رضي الله عنه عن النبيِّ ﷺ قال: “سَبْعَةٌ يجْرِي عَلَى الْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي بِرِّهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَكْرَى نَهْرًا، أَو حَفْرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلاً، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ”.
وفي الخراج ليحيى بن آدم: “جاء رجلٌ إلى عَلِيٍّ رضي الله عنه، فقال: أتيتُ أرضًا قد خربت، وعجز عنها أهلها، فكريت أنهارًا وزرعتها. قال: كُلْ هنيئًا، وأنت مصلحٌ غير مفسد، معمِّرٌ غير مخرِّب” [يحيى بن آدم: الخراج ص٩٩].

تعدُّ الزراعة من المهن اللازمة لحياة البشرية، والتي لا تحيا بدونها؛ لذلك حث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه على الغرس والزراعة حتى في أشد المواقف وأصعبها فقد أوصى النبيُّ ﷺ في حديثٍ عظيمٍ ومدهش بغرس الشجر ولو أَزِف يوم القيامة؛ فعن أنسٍ رضي الله عنه عن النبيِّ ﷺ قال: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ”. قال المناويُّ: هذه “مبالغة في الحثِّ على غرس الأشجار وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرةً إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإنْ لم يبقَ من الدنيا إلا صبابة [البقية القليلة من الماء]؛ وذلك بهذا القصد لا يُنافي الزهد والتقلُّل من الدنيا” [المناوي: فيض القدير ٣ /٤٠].

ليس هناك حثٌّ وتحريضٌ على الغرس والتشجير أقوى من هذا الحديث؛ لأنَّه يدلُّ على الطبيعة المنتِجَة والخيِّرة للإنسان المسلم، فهو بفطرته عامل مِعطاء للحياة، كالنبع الفيَّاض لا ينضب ولا ينقطع، حتى إنه ليظلُّ يُعطي ويعمل حتى تلفظ الحياة آخر أنفاسها، فلو أنَّ الساعة تُوشك أن تقوم لظلَّ يغرس ويزرع، وهو لن يأكل من ثمر غرسِهِ، ولا أحدٌ غيره سيأكل منه؛ لأنَّ الساعة تدقُّ طبولها، أو يُنْفخ في صُورِها، فالعمل هنا يُؤدَّى لذات العمل؛ لأنَّه ضربٌ من العبادة، والقيام بحقِّ الخلافة لله في الأرض إلى آخر رمق.

٢- ومن عظمة التشريع الإسلامي أن النبي -ﷺ- نهى عن ترك الأرض بورًا من غير زرع، فقد جاءت أحاديث نبوية كثيرة تشجع على الزراعة، وتأمر بحسن رعايتها أو تركها لمن يحسن ذلك، أو يؤجرّها فقال الرسول ﷺ: (من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإنْ أَبَى فليمسك أرضه). [رواه البخاري، ومسلم]

– ويقول النبي ﷺ: “من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع وعجز عنها فليمنحها آخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه” أخرجه مسلم، وأخرجه البخاري بلفظ: “من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها آخاه فإن أبى فليمسك أرضه.

* بل يتخذ خطوة أوسع من ذلك فيأمر باستصلاح الأراضي الصالحة للزارعة، والمعروفة في الفقه الإسلامي ب “إحياء الموات” فقال ﷺ في حديث آخر: ”ما من امرىء يحيي أرضًا فيشرب منها ذو كبد حَرَّى أو تصيب منها عافية إلا كتب الله بها أجرًا”
والعافية هنا كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر، فالشارع يقول للزراع: عن لك من وراء منفعتك الخاصة الحاصلة من إحياء الأرض، منفعة عليك، وهي الأجر والثواب على ما تتناوله الطيور من ماء أرضك وثمارها، وإن كنت أنت أحيانا تكره ذلك ولاتريده، أي يكون لك الأجر بغير اختيارك، ولاينبغي أن يستغرب من ذلك، فقد روى البخاري ومسلم وأحمد والطيالسي من طريق جابر أن النبي ﷺ قال: “للزارع والغارس أجر في كل مايصيبه الناس والطير من ثماره”.
قال بعضهم: “لا يختص حصول الثواب بمن باشر الغرس والزراعة، بل يتناول من استؤجر لذلك وتسبب فيه بوجه”.

ولما كانت الزراعة عرضة للإصابة بالآفات، مِمَّا يجعل الناس يحجمون عنها إلى غيرها، كما يحدث في بعض المجتمعات الإسلاميَّة الآن، وجدنا رسول الله -ﷺ- يُواسي من يصاب بذلك، ويَحثُّه على البقاء في عمله، حتَّى لا تختل أوضاع المجتمع، فقال: مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ زَرْعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الْعَوَافِي إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهِ أَجْرًا) المعجم الكبير للطبراني.

روى الإمام أحمد وغيره أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أسلم وهو رقيق، فشارط سيده على أن يغرس له خمسمائة نخلة، فإذا عاشت فهو حر، فلما استشار النبي ﷺ وافقه على ذلك، وأمره أن يهيئ الغراس، ويحفر لها الحفر اللازمة، فإذا تم ذلك أخبر النبي ﷺ ليغرسها بيده، وهكذا كان، وعاشت النخلات، وعتق سلمان رضي الله عنه، وانضم إلى الصحابة الكرام في نشر الإسلام وخدمة المسلمين، وكانت البداية غرس النخلات، وما أجدرنا أن نتأسى بالنبي ﷺ فنملأ أرضنا الطيبة شجرًا مباركا تبعث خضرته البهجة في القلوب، ويستظل به الناس، وتتغذى منه الأجيال.

أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.
أيها الإخوة المؤمنين
لكلِّ ما سبق كان الصحابة رضوان الله عليهم سابقين في أمر الزرع، فلقد فهموا -رضي الله عنهم- مغزى هذا التوجيه الكريم، وطبقوه في حياتهم العملية بكل اخلاص طمعًا في ثواب الله، وعمارة للأرض، ورخاء للإنسانية، وكانوا خير سلف- فانطلقوا مطبقين لتعاليم الإسلام، التي تحث على الزراعة، رَغْم مشاغل بعضهم الجسيمة واستغنائهم، فكان شعارهم: غرس لنا من قبلنا فأكلنا، ونحن نغرس ليأكل من بعدنا.
– فهذا عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه- يقول وقد سُئل: أتغرس بعد الكبر؟ فقال: لأنْ توافيني السَّاعة وأنا من المصلحين خير من أن توافيني وأنا من المفسدين،

– وغرس الصحابي ابو الدرداء شجرة جوز، وهو شيخ طاعن في السن، فساله احدهم: أتغرس هذه الجوزة وانت شيخ كبير وهي لا تثمر الا بعد كذا وكذا من السنين؟ فأجابه ابو الدرداء: وماذا عليّ ان يكون لي ثوابها ولغيري ثمرتها؟.

– وهذا عبدالرحمن بن عوف رغم غناه كان يمسك المسحاة بيده، ويحول بها الماء،

– وكان طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أوَّل من أدخل زراعة القمح للمدينة، وكان يزرع على عشرين ناضحًا [البعير أو الثور أو الحمار الذي يُسْتَقَى عليه الماء]، وينتج ما يكفي أهله بالمدينة سنتهم حتى استغنوا عمَّا يستورد من بلاد الشام، [ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق ٢٥ /١٠٣].

– وكان أبو هريرة يرى المروءة في تلك الأفعال، فقد سئل مرة: ما المروءة؟ فقال: تقوى الله وإصلاح الضيعة.

قال ابن حزم: “لم تزل الأنصار كلهم، وكلُّ من قسَّم له النبيُّ ﷺ أرضًا من فتوح بني قريظة، ومن أقطعه أرضًا من المهاجرين يزرعون ويغرسون بحضرته ﷺ وكذلك كلُّ مَنْ أسلم من أهل البحرين، وعمان، واليمن، والطائف” [ابن حزم: المحلى ٨ /٢١٠].
رابعًا: من معجزات الرسول ﷺ معجزات تتعلق بالزراعة؛ منها:
١- حنين الجذع: عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه يَقُولُ: “كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ” [البخاري].

٢- شهادة الشجرة: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: إِلَى أَهْلِي، قَالَ: هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: مَنْ شَاهِدٌ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: هَذِهِ الشَّجَرَةُ. فَدَعَاهَا رَسُولُ الله ﷺ وَهِيَ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الأَرْضَ خَدًّا حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَشْهَدَهَا ثَلاثًا، فَشَهِدَتْ أَنَّهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا” [الطبراني ١١/ ٦٣ والدارمي ١/ ٢٨].

* فلا تقصِّر في حق زرعك؛ لأنك إذا قمت بواجبك نحوه كنت من المقربين إلى الله عز وجل، ونصرت بلادك ومجتمعك على أعدائه، فلا توقعه في حرج مَدِّ اليد إليهم، واستيراد السلع منهم؛ يقول الشعرواي رحمه الله: إذا أردنا أن تكون كلمتنا من رأسنا، فعلينا أن تكون لقمتنا من فأسنا.
الدعاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *