حرية اليأس وعبودية الطمع: قراءة في حكمة ابن عطاء الله السكندري

بقلم الدكتور : فارس  أبوحبيب
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف المصرية

قال العارف بالله سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري (ت. 709هـ) في إحدى حكمه البديعة الخالدة: “أنت حرٌّ مما أنت عنه آيس، وعبدٌ لما أنت له طامع.”

وهذه الحكمة وردت ضمن الحِكم العطائية، وهي مجموعة من الأقوال الروحية العميقة التي تكشف عن دقائق السلوك إلى الله، وتجلّي أمراض القلوب ودواءها.

حكمة موجزة، لكنها تفتح أبوابًا من البصيرة، وتغوص في أعماق النفس البشرية، وتضع اليد على أحد أدق مفاتيح التحرر الروحي، والتحرر من قيود التعلق، والعبودية لغير الله.

الطمع قيد.. واليأس حرية:

حين يتأمل الإنسان هذه الكلمات يجد أن الحرية الحقيقية لا تكمن في امتلاك الأشياء، وإنما في الاستغناء عنها، فكل ما طمعت فيه، وتعلّق قلبك به، أسرك واستعبدك، أما ما يأست منه وانقطع رجاؤك فيه، فقد تحررت منه، وصرت مالكًا لنفسك لا مملوكًا له.

الطمع هنا ليس مجرد “رغبة”، بل هو تعلق قلبي يصاحبه انكسار وضعف وتنازل عن الكرامة، فإنك كلما طمعت في شيء من الدنيا – مال، جاه، منصب، أو حتى مديح – أصبحت عبدًا له، لأنه أصبح يتحكم في مشاعرك وقراراتك وسلوكك.

وقد قال سهل بن عبد الله التستري:
“الطمع سيف ماضٍ في قلب العبد، يقتله كل يوم ألف مرة، ولا يشعر.”

ويقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين (ج3، ص 317):

“الطمع فقر، واليأس غنى، فمن طمع في الخلق افتقر إليهم، ومن يئس مما في أيديهم استغنى بالله.”

اليأس هنا ليس قنوطًا بل فطنة روحية هو يأس من الخلق، لا من الخالق؛ يأس ممن لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فإذا يئست من جاه الناس، ومالهم، وثنائهم، واستغنيت عنهم بالله، صرت حرًّا.

وأما الطمع فهو عبودية باختيارك، تتعلق بالوظيفة، أو المال، أو الناس، أو حتى النتائج، فيتحول قلبك من محراب العبودية لله إلى وثن من التعلق بالأسباب، ولا أشد على النفس من أن تُستعبد لما لا يملك أمرها.
يقول أحد الصالحين:
«إذا أيست من الشيء، خرج من قلبك، فصرت حرًّا منه، وإذا طمعت فيه تعلق به قلبك فاستُعبدت له».
ويضيف:
«الحرية الحقيقية لا تكون إلا بالتجرد من التعلق بغير الله، والطمع في الخلق يورث الذل والعبودية، بخلاف الطمع في فضل الله فإنه من مقامات الرجاء.»

من مظاهر العبودية للطمع:

ـ الخوف من فوات الفرصة.
ـ اللهاث خلف رضا الناس.
ـ القلق الدائم من المستقبل.
ـ التنازل عن المبادئ من أجل مكاسب زائلة.

وهنا تتجلى عبقرية ابن عطاء الله: ما دمت طامعًا، فأنت عبد. وما دمت آيسًا، فأنت حر.

فاليأس هنا ليس يأسًا مذمومًا، بل هو يأس راقٍ عن التعلق بالخلق، وعن انتظار النفع والضر منهم. وكما قال ابن عطاء الله في حكمة أخرى:
“متى أوحشك من خلقه، فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به.”

فإذا يئست من الناس، ومن جاههم ومدحهم وعطائهم، تحررت منهم، وصار قلبك خالصًا لله، حرًّا من كل قيد.

وقال ابن القيم في مدارج السالكين (ج1، ص 451):

“متى استغنى القلب بالله، لم يحتج إلى غيره، ولم يذل لغيره، فكان حرًّا في عبوديته.”

وهنا يثور سؤال: هل يعني ذلك أن لا نسعى ولا نطمع في الرزق أو المستقبل أو الخير؟

والجواب: كلا.
المقصود الطمع الذي يعلق القلب بالأسباب وينسى رب الأسباب، ويجعلك ترى في الناس مصدر النفع والضر لا الله سبحانه وتعالى، أما الرجاء في الله، والسعي المشروع مع التوكل عليه، فهو عين الحرية بل هو العبودية لله.
قال الإمام ابن القيم:
“الحرية لا تُنال إلا بصدق العبودية، وكل من تعبّد لغير الله فهو عبد لذُلّه، وحرٌّ من عزّه بالله.”

بين الرجاء والطمع:
من المهم التمييز بين “الطمع” المذموم و”الرجاء” المحمود.
* فالرجاء: تعلق بالله مع العمل والحياء.
* والطمع: تعلق بالخلق أو بالدنيا مع الكسل والتنازل.

وقد بيّن الإمام الجنيد ذلك حين قال:
“الرجاء ما قارنه عمل، فإن خلا من العمل فهو أمن وغرور.”

خاتمة:

ما أجمل أن تعيش حرًّا من الخلق، عبدًا للخالق تسعى، وتجتهد، وتبذل، لكن لا تطمع إلا في وجه الله، ولا تنتظر من الخلق شيئًا، فإذا تحقق لك ذلك، صرت عبدًا حرًّا، وحرًّا عبدًا.

فلنجعل من هذه الحكمة منارًا لمسيرتنا في الحياة فهذه الحكمة من درر سيدي ابن عطاء الله، تختصر فلسفة العبودية الحقة والتحرر النفسي والروحي:
“أنت حرٌّ مما أنت عنه آيس، وعبدٌ لما أنت له طامع.”

فليكن طمعك في الله، ويأسك من غيره، لتكون عبدًا لله وحده، حرًّا مما سواه.
فمن أراد حرية القلب، فليُطْفِئ نار الطمع، وليُشعل نور التوكل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *