«فضائل العشر الأواخر»
19 مارس، 2025
منبر الدعاة

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد
الدرس التاسع عشر :. «فضائل العشر الأواخر»
الحمد لله رب العالمين، أحمده حمداً يليق بجلال وجه وعظيم سلطانه، اللهم صلّ وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا عباد الله: لقد مَّن الله تعالى على عباده بمواسم الطاعات، ورزقهم فيها الثواب العظيم والأجور الكثيرة، والله يضاعف لمن يشاء؛ فبمجرد أن تدخل العشر الأواخر من رمضان تزداد الهمة وتقبل النفوس وتقترب من ربها أكثر ملتمسة منه المغفرة والقبول، ولقد كان سيدنا رسول الله ﷺ يحتفى بهذه العشر أيّما احتفاء فكان ﷺ يُحيي العشر الأواخر من شهر رمضان ويوليها اهتماماً شديداً حيث يُضاعف اجتهاده في العبادات؛ فعن عائشة رَضَيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رسُول اللَّهِ ﷺ: «إِذا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رمَضَانَ، أَحْيا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَه، وجَدَّ وَشَدَّ المِئزرَ» متفقٌ عَلَيهِ.
وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي رَمضانَ مَالا يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ، وَفِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ منْه مَالا يَجْتَهدُ في غَيْرِهِ» رواهُ مسلم.
قال ابن عبَّاس رضِي الله عنهما: «بِتُّ عِنْدَ خَالَتي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النبيُّ ﷺ، فَلَمَّا كانَ في بَعْضِ اللَّيْلِ، قَامَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ فَتَوَضَّأَ مِن شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا – يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو ويُقَلِّلُهُ جِدًّا -، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا ممَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ، فَقُمْتُ عن يَسَارِهِ، فَحَوَّلَنِي، فَجَعَلَنِي عن يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حتَّى نَفَخَ، فأتَاهُ المُنَادِي يَأْذَنُهُ بالصَّلَاةِ، فَقَامَ معهُ إلى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى ولَمْ يَتَوَضَّأْ قُلْنَا لِعَمْرٍو: إنَّ نَاسًا يقولونَ: إنَّ النبيَّ ﷺ تَنَامُ عَيْنُهُ ولَا يَنَامُ قَلْبُهُ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرٍ يقولُ: إنَّ رُؤْيَا الأنْبِيَاءِ وحْيٌ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إنِّي أرَى في المَنَامِ أنِّي أذْبَحُكَ﴾(الصافات: ١٠٢)،
ليالي العشر من رمضان كنز
وأفلح من يفوز بها اغتناما
وفيها ليلة القدر التي شغفت
قلوب المؤمنين لها غراما
فحاول أن تكون بها عتيقا
من النيران لا تلقى الملاما
وأسبل من دموعك كل هُطل
يبل ثياب صدرك والحزاما
– في العشر الأواخر من رمضان تتفتّح أبواب السّماء وتتنزّل الملائكة على الأرض وكلّ عملٍ يعمله المسلم يكون مشهوداً، فأكثروا من أعمالكم الصّالحة.
وأكثروا من الدّعاء في العشر الأخير، فإنّ الدّعاء أحبّ الأعمال إلى الله تعالى.
– العشر الأواخر من رمضان هي عشر العتق من النار، فعدّوا العدّة لنيل هذه المرتبة من الله تعالى.
فالمسلم الحق لا يترك العشر الأخير من رمضان يغادره دون نيل رضا الله وعتقه من النار.
– أيها المجتهدون: يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة، وأحوال شريفة: العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه، فأين المتنافسون؟!
يا شهر الرحمة لا ترحل
أننا نرجوك تتمهل
عشر الرحمات أظلتنا
لطف المنان لنا يمهل
تلتها للعفو ليالي عشر
والتوب بها يكمل
– ولقد كان أسلافنا الكرام رضي الله عنهم أشد حرصاً واجتهاداً في العشر الأواخر من ذلك؛
– عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة الصلاة؛ ويتلو هذه الآية: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾(طـه: ١٣٢)، مؤطأ مالك.
– وكان ابنُ عُمَر يقرأ هذه الآية: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ (الزمر: ٩)، قال: ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه.
– وكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ظن الليلة ليلة القدر، اغتسل وتطيَّب، ولبس حلَّة: إزار ورداء، فإذا أصبح طواهُما فلم يلبَسْهما إلى مثلِها من قابل
– وقال إبراهيم بن وكيع: كان أبي يصلِّي، فلا يبقى في دارِنا أحدٌ إلاَّ صلَّى، حتَّى جارية لنا سوداء.
– وكان طلحة بن مصرف يأمُر نساءَه وخدمه وبناتِه بقيام الليل، ويقول: صلُّوا ولو ركعَتَين في جوْف اللَّيل؛ فإنَّ الصَّلاة في جوْف اللَّيل تحطُّ الأوْزار، وهى من أشْرف أعمال الصَّالحين.
– وكان ثابتٌ البناني، ووحميدٌ الطَّويل يلبَسان أحسنَ ثيابِهما، ويتطيَّبان ويطيِّبان المسجد بالنَّضوح في اللَّيلة التي تُرْجَى فيها ليْلة القدر.
– وقال ثابتٌ: وكان لتميم الدَّاريِّ حُلَّة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
– وقال سفيان الثَّوري: أَحب إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يَتهجَّد باللَّيل، ويَجتهِد فيه، ويُنهِض أهله وولدَه للصَّلاة إن أطاقوا ذلك.
– وكان الأسود بن يزيد يختم المصحف في ست ليالي فإذا دخل رمضان ختمه في ثلاث ليال فإذا دخلت العشر ختمه في كل ليلة.
– وقد أفاد الحافظ بن رجب رحمه الله أن النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث إنما هو على الوجه المعتاد أما في الأماكن الفاضلة كمكة لمن دخلها أو في الأوقات الفاضلة كشهر رمضان والعشر منه فلا يكره وعليه عمل السلف.
عباد الله: استدركوا في آخر شهركم ما فاتكم من أوله، وأحسنوا خاتمته فإنما الأعمال بالخواتيم، ومن أحسن فيما بقي غفر له ما قد مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي. وأروا الله من أنفسكم الجد في تحري الخير في هذا الثلث الأخير.
واجعلوا كتاب الله رفيقكم في العشر، فهو نور القلوب وشفاؤها، وفي تلاوته أجرٌ كبير.
واحرصوا على قيام كلّ ليلة من لياليها، فيها ليلة القدر، وفي هذه الليلة الدّعاء لا يرد، فجاهدوا أنفسكم لتنالوا هذا الشرف العظيم.
وأكثروا عباد الله من النفقة في سبيل الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾(آل عمران: ٩٢)، وعنَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرحَاءُ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ.
فقام أبو طلحة إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله؛إن الله تبارك و تعالى يقول: ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ﴾ و إن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال ﷺ: «بخ أبا طلحة ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، قبلناه منك ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين» فتصدّق به أبو طلحة على ذوي رَحِمِه.
فمن البرِّ والتَّقوى أن ينفق المسلم مما يُحبّ في سائر وجوه البرِّ، فإن هذا من أسباب دخول الجنّة والنَّجاة من النار؛ قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾(الإنسان: ٨-٩)، وقال تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾(البقرة: ١٧٧)
واغتنموا ما في العشر الأواخر من الخير الوفير، وتعرضوا لنفحات الغفور الحليم، الرحيم القدير؛ فإن المغبون حقاً من صرف عن طاعة الرب، والمحروم من حرم العفو، والمأسوف عليه من فاتته نفحات الشهر.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين وأحشرنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.