التدرج فى التشريع أول لبنة لبناء المسلم
19 مارس، 2025
حقوق الإنسان فى الإسلام

بقلم الأستاذ : أحمد المهيدى
من عظمة الشريعة الإسلامية أنها اشتملت على أسس ومبادئ سامية رفعت من قيمة الإنسان وأعلت من قدره وحافظت على كرامته هذه التشريعات جاءت متوافقة مع الطبيعة البشرية التى يتخللها الضعف والنقصان ومن هذه الأسس والمبادئ (التدرج في التشريع) فهذا المبدأ السامى يحمل فى طياته الكثير من المعاني والعبر حيث أن الإسلام قد راعى قيام الإنسان قبل قيام الدولة والشريعة , فمن أجل هذا جاءت أحكامه متدرجة بسيطة حتى يتقبلها المسلم ولا ينفر منها .
أمثلة على التدرج في التشريع :
التدرج في التشريع له العديد من الأمثلة كتحريم الخمر وتحريم الربا وفرض الصلاة وإقامة الحدود ولكن للإيجاز نذكر منها تحريم الخمر
التدرج في تحريم الخمر :
كان العرب قبل الإسلام في الجاهلية قد تفشى فيهم شرب الخمور وكانوا يتفاخرون بذلك فى إشعارهم وقصائدهم وكانت الخمور مصدرا لتجارتهم وقد تعاملت الشريعة الإسلامية مع هذا الإمر بحكمة شديدة فلم تحرم الخمر مرة واحدة ولاكن تم تحريمها على عدة مرات لتهيئة النفوس لتتقبل الحكم النهائي ففى البداية :
أظهرت الشريعة أن الخمر فيها إثم بجوار منافعها المادية: قال تعالي {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
تحريم شرب الخمر قبل الصلاة : قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}(النساء: 43)
الحكم البات بتحريم الخمر : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
لماذا جاءت الأحكام متدرجة :
أولا : حتى لا تنفر منها النفوس :
النفوس البشرية قد جبلت على حب الملذات وحب الشهوات وكان العرب قبل الإسلام أهل جاهلية حالهم كحال الأمم المجاورة لهم قد تفشت فيهم عادات ذميمة كالزنا والخمر والربا والقتل فكان النبى صلى الله عليه وسلم يعاملهم كالطبيب الذى يعامل المرضى والأب الرحيم الذى يحرص على هداية أبناءه وإصلاحهم وقد شاءت قدرة الله عز وجل رحمة بهذه الأمة تكريماً لنبيها أن تكون الأحكام متدرجة بسيطة حتى لا تفر منها النفوس وتمل وتثقل عليها فقد روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت { إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا }
ثانياً : بناء الإنسان قبل بناء الدولة :
الإنسان هو اللبنة الأولى فى الإسلام فبناء المسلم أهم من بناء الدولة لأن المسلم هو العمود الإساسى الذى ستقام عليه الدولة وستقام به الشريعة ومن أجل ذلك لم تأتى الأحكام دفعة واحدة بل تم تجهيز المسلم أولا وإصلاحه لتلقى هذه الأحكام
حيث أن الدعوة الإسلامية في بادئ الأمر فى مكة كانت لإرساء مبادئ العقيدة الصحيحة حتى تشبعت روح المؤمنين بأنوار دينهم طبقت عليهم الحدود والأحكام والتحريم
هل يمكن العمل بمبدأ التدرج في وقتنا الحاضر ؟
سؤال يتبادر إلى الكثير من الإذهان هل يمكننا إستخدام مبدأ الترغيب والتدرج فى الدعوة إلى الله فى وقتنا الحالى ولكى نجيب على هذا السؤال علينا اولا أن نسلم بحقيقة لا يمكن مخالفتها أو الإجتهاد فيها أن أصول الإسلام لايمكن المساس بها كالصلاة لايمكننا أن نخفضها إلى ركعتين وصوم رمضان لايمكننا أن نخفضه الى خمسة عشر يوما وكذلك الزكاة وما نزل فيه نص قطعى بالحل والحرمة كتحريم الربا والخمر والزنا ولكن ماعدا ذلك فهوقد ترك لٱجتهاد المجتهدين وقد أفتى كل فقيه بقدر ما علمه الله حسب الزمان والمكان المتواجد فيه ولكن سؤالنا لازال باقياً هل يمكننا العمل بمبدأ التدرج في وقتنا الحاضر ؟
أولا: كيف يمكن تطبيق مبدأ التدرج في الدعوة إلى الله ؟ :
الدعوة إلى الله والنصيحة تحتاج إلى قلب رحيم وعقل سوى راجح فلا ينفع فيها من كان فى قلبه جحود وقسوة ومن كان عقله مشوها تشوبه الأمراض ولذلك فقد وقع أكثر الدعاة المتشددين فى الخطأ وقد حولوا الدعاة بدلاً من أطباء إلى منذرين ومخوفين ومرعبين للناس لأن الدعوة فن من الفنون وذوق رفيع فعلى الداعية أن يعلم أن الإنسان الذى يوجه إليه النصيحة والأرشاد فى حرب داخلية بين الخير والشر فنفسه وشيطانه هما جند الشر وهذا الداعية هو جند الخير فيكون هذا الداعية أكثر حكمة حتى لا يخسر معركته وعملا بمبدأ التدرج فليستخدم معه اللين والعطف والترغيب فى الله ومحبته فليدخله إلى الله عن طريق المحبة لا عن طريق التخويف فلا يمكننا أن نحدث شخص لا يصلي من الأساس عن الخشوع فى الصلاة
ثانياً: تطبيق مبدأ التدرج في إلغاء بعض الأحكام الثابتة كالحدود
الشريعة الإسلامية لم تطبق الحدود إلا بعد أن حالت بين المسلم وبين إرتكاب ومخالفة أوامر الله فلم يطبق حد الزنا إلا بعد أن تيسر للمسلم الزواج ولم تطبق حد السرقة إلا بعد أن سدت حاجة المسلم وبلغت بمتطلباته حد الكفاف فجعلت لكل مسلم نصيا مفروضا فى بيت المال وكذلك ألزمت الأغنياء بإخراج زكاتهم للفقراء ورغبت فى الصدقات للفقراء والمساكين ، ثم بعد ذلك أقامت على السارق الحد . إذن فإن تطبيق الأحكام الشرعية يتوقف على وجود أسبابها وتوافر شروطها وإنتفاء موانعها كما أنها قد يعتمد فيها إجتهاد ولى الأمر والدليل على ذلك ماحدث في عهد الصحابة الكرام والتابعين :
– منع سيدنا عمر بن الخطاب نصاب الزكاة للمؤلفة قلوبهم لأنه رضى الله عنه قد رأى أن السبب فى إعطاء الزكاة لهم هو ترغيبهم فى دخول الإسلام وتثبيتهم على الإيمان وكان هذا فى بداية الدعوة قبل أن تقوى شوكة الإسلام ويستتب أمره .
– منع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقسيم الأراضى المفتوحة على المجاهدين الفاتحين الذين طالبوه بتقسيمها عليهم عملا بظواهر النصوص القرآنية والسنة النبوية وأدرك أن هذه الأراضى ملكاً لجميع المسلمين الفاتحين والمجاهدين وغيرهم فى عصره الحالي وفى المستقبل .
ـ أوقف سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إقامة حد السرقة فى عام المجاعة المسمى بعام الرمادة وأكتفى بالتعزير فقط كما ورد عنه أنه أوقف الحد على العبيد إذا سرقوا بسبب الجوع لبخل سيدهم .
– وقد ورد أن الخليفة العادل سيدنا عمر بن عبد العزيز لما ولى أمر المسلمين طالبه أبنه بتطبيق الشريعة على الرعية قائلاً : مابالك يا أبت لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما أبالى أن القدور غلت بى وبك فى الحق فأجابه قائلاً : لا تعجل يابنى فإن الله قد ذم الخمر فى القرآن مرتين وحرمها فى الثالثة وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة واحدة فيدفعوه فيكون ذلك فتنة .
خلاصة القول:
أن الله سبحانه وتعالى أعلم بشأون خلقه وهو أعلم بضعفهم ولذلك قد ألزمهم بأمور دينهم بالتدريج ليرفع عنهم الحرج والمشقة ولذلك علينا أن نضع هذا فى الحسبان فى وقتنا الحاضر وألا نقسوا على الناس وخاصة أننا نعيش فى زمان قد عمت فيه الفتن والبلايا فيجب علينا أن نكون أطباء فى دعوتنا إلى الله ولنرحم ذلات الناس وإنتكاساتهم ولنتجاوز عنها ولنرغبهم فى دينهم قدر المستطاع.