«رمضان شهر الانتصارات»

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد

الدرس السادس عشر : «رمضان شهر الانتصارات»

الحمدُ لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولى المتقين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله خير من جاهد فى سبيل ربه جل وعلا، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: لقد عُرف شهر رمضان بأنه شهر الانتصارات الكبرى والفتوحات العظمى، التي شكلت نقاط تحول كبيرة فى تاريخنا الإسلامي على مر العصور؛ لقد خاض المسلمون وهم صائمون معارك ضارية فبذلوا دمائهم من أجل الحق فربح بيعهم وظفروا بخيرى الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚفَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚوَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(التوبة: ١١١)

ولقد كان من أهم المعارك الفاصلة التى خاضها المسلمون؛

– غزوة بدر الكبرى يوم التقى الجمعان؛ والتى وقعت في يوم الجمعة لسبعة عشر خلت من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ولقد سمى ربنا تبارك وتعالى يوم بدر بيوم الفرقان، لأنه كان فرقاناً بين الحق والباطل، فرقاناً بين عهد الاستضعاف، وعهد القوة والتمكين؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾(آل عمران: ١٢٣-١٢٦)، ولقد كان لغزوة بدر دروساً بليغة ينبغى للأمة أن تعيها من ذلك؛

• تضحيات الصحابة رضي الله عنهم؛ لقد قدموا أنفسهم وأموالهم فداءً لهذا الدين، فالمهاجرون تركوا أموالهم في مكة، وهاجروا بدينهم إلى المدينة، وبذلوا نفوسهم رخيصة في معركة بدر، بل إن النبي ﷺ عندما رأى حالة فقرهم الشديدة قال:«اللهم إنهم جياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم، وحفاة فاحملهم»، والأنصار رضي الله عنهم سجلوا موقفهم، عندما قال النبي ﷺ: «أشيروا على أيها الناس» فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال:«يا رسول الله آمنا بك وصدَّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة؛ فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً، إنا لصُبرٌ عند الحرب، صُدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك فينا ما تقَر به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله»، وصدق الله إذ يقول: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾(الأحزاب: ٢٣)،

• إجابة الله عز وجل لدعاء المضطر؛ لقد استجاب الله لدعاء نبيه ﷺ ودعاء المؤمنين لما استغاثوا به، فأمدهم بالملائكة، وأيدهم بنصره فكان رسول الله ﷺ يتضرع إلى ربه قائلاً: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي»، «اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ»، وظل ﷺ يدعو ويبتهل حتى سقط رداؤه عن كتفه، فيرده عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان يشفق عليه لكثرة ما دعا ويقول: يا رسول الله أبشر فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك، وهو يقف خلفه؛ قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾(الأنفال: ٩)،

• صدق التوكل على الله من أعظم أسباب النصر؛ قال تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾(آل عمران: ١٦٠)، وهذا ما حدث في غزوة بدر فإن الصحابة على قلة عددهم وعُددهم مقابل عدوهم إلا أنهم توكلوا على الله، وقاتلوا فنصرهم الله، قَال تَعَالَى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ: سبب نزول هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا انْصَرَفُوا عَنِ الْقِتَالِ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: أَنَا قَتَلْتُ فَلَانًا وَيَقُولُ الْآخَرُ مثله، فنزلت هذه الْآيَةُ. وَمَعْنَاهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ بقوّتكم ولكنّ الله قتلهم بنصرته إيّاكم وتقويته لكم. وقيل: ولكن اللَّهَ قَتَلَهُمْ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ، ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾، معناه أن القبضة من الحصباء التي رميتها يا محمد ﷺ، فأنت ما رميتها في الحقيقة، لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر، ولكن الله رماها حيث نفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم، فصورة الرمية صدرت من الرسول ﷺ، وأثرها إنما صدر من الله، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات.

• الإتحاد قوة، والتنازع والاختلاف من أسباب الفشل والهزيمة أمام العدو؛ قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(الأنفال: ٤٦)،

* الشيطان يزين لأوليائه الموبقات فإذا وقعوا فيها تخلى عنهم وهذا ما حدث في غزوة بدر، فإن الشيطان زين لقريش الخروج لحرب النبي ﷺ، ثم تولى عنهم؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الأنفال: ٤٨)،

– فتح مكة المكرمة؛ كان في العشرين من رمضان من العام الثامن من الهجرة؛ وسببُ الفتح أن مشركى قريشٍ انتهكوا الهدنةَ التي كانت بينهم وبين المسلمين، فأعانوا حلفائهم من بني بكرٍ بن عبد مناةٍ، في الإغارة على قبيلة خزاعة، الذين هم حلفاءُ النبى ﷺ، فنقضوا بذلك العهد مع المسلمين الذي عُرف بصلح الحديبية، وردّاً على ذلك، جَهَّزَ الرسولُ ﷺ جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل لفتح مكة، وتحرَّك الجيشُ حتى وصل مكة، فدخلها سلماً دُون قتال، إلا ما كان من جهة خالد بن الوليد، إذ حاول بعضُ المشركين بقيادة عكرمة بن أبي جهل التصديَ للمسلمين، فقاتلهم خالدٌ وقَتَلَ منهم اثني عشر رجلاً، وفرَّ الباقون منهم، وقُتل من المسلمين رجلان اثنان، ولمَّا نزل الرسولُ ﷺ بمكة واطمأنَّ الناسُ، جاءَ الكعبة فطاف بها، وجعل يطعنُ الأصنامَ التي كانت حولها بقوس كان معه، ويقول: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾، ﴿وجَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾، ورأى في الكعبة الصورَ والتماثيلَ فأمر بها فكسرت، ولما حانت الصلاة، أمر ﷺ بلال بن رباح أن يصعد فيؤذن من على الكعبة، فصعد بلالٌ وأذّن، ولقد كان من نتائج فتح مكة دخول الناس فى دين الله أفواجاً، ومنهم سيد قريش وكنانة أبو سفيان بن حرب، وزوجتُه هند بنت عتبة، وكذلك عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأبو قحافة والد أبي بكر الصديق، وغيرُهم، ولقد علّمنا سيدنا رسول الله ﷺ، أن الفتح إنما يكون بفتح القلوب بالرحماتِ، وليسَ بسفكَ الدماءٍ واستباحةَ الحرمات، فعندما قال بعضُ الصحابةِ يومَ فتحِ مكةَ: اليومُ يومُ الملحمةِ، قال ﷺ: «بلِ اليومُ يومُ المرحمَة»، ولقد عفَا عن أهلِ مكةَ، فقال لهم: «اذهبوا فأنتُمُ الطلقاء»، وتركَ مفاتيحَ الكعبةِ بأيدِيهِم كما كانت، وقال ﷺ: «اليومُ يومُ وفاءٍ وبر».

– القضاء على المغول فى عين جالوت فى رمضان سنة ٦٥٨هجرياً؛ لقد احتل المغول بغداد واسقطوا الخلافة وقتلوا الخليفة وسفكوا الدماء وانتهكوا الحرمات وأرسل هولاكو برسالة تهديد إلى قظز فلم يفت ذلك في عضده، وتجهزت الجيوش بقيادة سيف الدين قطز وتوجهت نحو عين جالوت بفلسطين فلم ينتظر قطز مهاجمة المغول مصر بل خرج إلى عين جالوت ليبدأ بالهجوم ولما بدأت المعركة حمل المغول على جيوش قطز رأى ذلك قطز فخاف أن يفر الجنود أمام شراسة المغول فألقى خوذته على الأرض وصرخ بأعلى صوته: اللهم أنصر عبدك الفانى وصرخ بأعلى صوته، واسلاماه واسلاماه واسلاماه، ثم أخذ يحمل سيفه ويشق صفوف الأعداء فالتف حوله الجنود فى ملحمة عظيمة من الجهاد مما أفقد المغول صوابهم وتكبدوا خسائر هائلة ومكن الله المسلمين من رقابهم فقتلوا قائد الجيش المغولى – كتبغا- وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل فهزم المغول وولوا الأدبار وقتل منهم عدداً كبيراً وفر الباقون يجرون ورائهم أذيال الهزيمة والخزى والعار وبذلك تحطم غرور التتار أمام قوة وشجاعة المسلمين وبهذا تكون مصر قد خلصت العالم العربى من همجية المغول؛ قال تعالى: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الأنعام: ٤٥)، وهذه رسالة إلى كل المستضعفين مفادها إذا كانت نهاية المغول كانت فى عين جالوت بأرض فلسطين، فإن نهاية اليهود أيضاً ستكون قريباً بإذن الله بأرض فلسطين.

– معركة العاشر من رمضان؛ لقد كان الإحتلال الإسرائيلى لسيناء الحبيبة سنة ١٩٦٧ ميلادياً حتى أذن الله تعالى بالنصر المؤزر فى العاشر من رمضان السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣ ميلادياً، لقد خاض جنودنا البواسل معركة العبور وهم صائمون، وكان شعارهم – الله أكبر الله أكبر – فأيدهم الله بنصره، وهُزم اليهود هزيمة منكرة، وتبدد غرورهم، وتحطمت أسطورة الجيش الذى لا يُقهر، وَدُمر خط بارليف أكبر مانع ترابى فى العصر الحديث؛ قال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(المجادلة: ٢١)،

عباد الله: إن رمضان شهر الانتصارات، على الإعداء، ومن أخطر الأعداء الذين يجب مجاهدتهم النفس، فالنفس هى أعدى أعداء الإنسان لأنها بطبيعتها أمارة بالسوء، فإن لم يشغلها صاحبها بالحق شغلته بالباطل، والإنسانَ قد يُجَاهِد غيره، لكنه يَنْسَى نفسه، ويظن أنها لا تحتاج إلى مجاهدة، وقد يرى أنه أحسن الناس حالاً، أو على الأقل ليس أَسْوَأَ الناسِ، وهذا يُقْعِدُه عن المجاهدة، فيسير في الرَّدى، ويُوشِك أن يهلك.

ولما سأل رَجُلٌ عبدَالله بن عمر رضي الله عنهما عن الجِهَاد قال: ابْدَأْ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغْزها،، جامع العلوم والحكم.

إن الأجواء الرمضانية خير مُعين على مجاهدة النفس، لأن الشياطين ومردة الجن صفدوا، ليس أمام الصائم عدو سوى نفسه التى بين جنبيه،

فاتقوا الله عباد: وأنتم في هذا الشهر الكريم وجاهدوا أنفسكم على طاعة الله، وترك ما حَرمَ.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً