إنَّ للشهيد منازل ومراتب مختلفة في الجنة، وذكر بعضٍ منها في ما يأتي:أعلى منازل الشهداء؛ أنَّهم أحياءٌ عند ربهم لا يصلهم ولا يدركهم الفناء ولا العدم، حيث يتمتع الشهيد بنعيم الجنة على الدوام، ويبقون خالدين فيها أبداً، فقد قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ). تكون حياة الشهيد في الجنة على معنيين أحدهما؛ أنَّها حياة يملؤها الذكر الجميل ولسان الصدق في الحب، فالناس يشعرون ويتذكرون دائمًا فضل الشهداء؛ فهم من أجود الخلق وأكثرهم فضلًا وعطاءً. وجاء المعنى الثاني من حياة الشهداء في قوله -تبارك وتعالى-: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).من فضل الله -سبحانه وتعالى- على الشهداء أنَّه قد جعل لهم منازل من النعيم يوم القيامة، حيث إنَّهم في هذا اليوم لا يفزعون ولا يحيط بهم الخوف، ولا أيُّ أذى، وذلك لما جاء في قوله -تبارك وتعالى-: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ). من مراتب الشهداء أنَّ كل إنسان قد قُتل في سبيل الله -تبارك وتعالى- يعتبر من الشهداء. منها أيضًا أنَّ من مات بمرض الطاعون فهو من الشهداء، ومن غرق فهو شهيد أيضًا. من المنزلة العظيمة للشهداء أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد وعدهم بالشيء الكثير من فضله -سبحانه- وكرمه وجوده، وذلك لأنَّهم قد بذلوا أنفسهم في سبيله، ولمَّا صبروا في إظهار وبيان دينه وإعلاء كلمته -عز وجل-، وبصبرهم على جهاد الأعداء، قام الله -تبارك وتعالى- بتعويضهم بالأجر العظيم والمنزلة الرفيعة.الصورة والمنزلة التي رسمها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة للشهيد من الصور والمنزلة العظيمة التي رسمها القرآن الكريم والسنة النبوية لمن قُتل في سبيل الله ما يأتي: قام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة برسم صورة جليّة، ومنزلة عظيمة وعالية رفعها إليه، فقد جعل له مقامًا كريمًا الذي أحلّه إليه، وهذا المقام موجود في دار البقاء الذي يتنافس فيه المؤمنين، ويعمل عليه العاملون، فجاء في قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ).من المنزلة الرفيعة للشهيد أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يتمنى الموت في سبيل الله، عن أبي هريرة -رضي الله عنها- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أنِّي أغْزُو في سَبيلِ اللهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أغْزُو فَأُقْتَلُ). ومن المنزلة والمقام العالي والرفيع الذي أعدّه الله -سبحانه وتعالى- على عباده الشهداء، أنَّ لهم جنات الفردوس خالدين فيها.يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
قال تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أحَد يَدْخُل الجَنَّةَ يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا وله ما علَى الأرْضِ مِن شيء إلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا، فيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِما يَرَى مِنَ الكَرامَةِ).
وروى أنّ عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو كانا ممّن استشهد يوم أحد، فدفنا فى قبر واحد، وكان قبرهما عند مجرى السيل حتى حُفر من أثر جريان الماء، فلمّا حُفر قبرهما لتغييره وُجدا كأنّ موتهما كان قريباً، مع أنّ حادثة موتهما كانت قبل ست وأربعين عاماً.
عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (للشهيدِ عند الله سبع خِصال: يُغفَرُ لهُ فى أوَّلِ دُفعةٍ من دَمِه، ويُرَى مَقعدَهُ من الجنةِ، ويُحلَّى حُلَّةَ الإيمانِ، ويُزوَّجُ اثنينِ وسبعينَ زوجةً من الحُورِ العينِ، ويُجارُ من عذابِ القبرِ، ويأمَنُ الفزعَ الأكبرَ، ويُوضَعُ على رأسِه تاجُ الوقارِ، الياقُوتةُ مِنهُ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويُشفَّعُ فى سبعينَ إنْسانًا من أهلِ بيتِهِ).
ثبت عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ أمّ حارثة بن سراقة استشهد ابنها فى يوم بدر، فأتت النبى تقول له: حدّثنى عن حارثة، إن كان فى الجنة صبرت، وإن كان فى النار بكيت، فقال لها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (يا أُمَّ حَارِثَةَ إنَّهَا جِنَان فى الجَنَّةِ، وإنَّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى). جاء عن أبى الدرداء -رضى الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (يَشْفَعُ الشهيدُ فى سبعينَ من أهلِ بيتِه).
العنصر الثانى : رمضان شهر الإنتصارات ومواقف للعزة والكرامة
في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة النبوية وقعت غزوة بدر، تلكم الغزوة التي كانت من الغزوات والمعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، وقد سُميت بهذا الاسم نسبة إلى المنطقة التي وقع القتال فيها بالقرب من بئر بدر بين مكة والمدينة المنورة، وقد عُرِفت في القرآن الكريم ببدر ويوم الفرقان، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الأنفال:41)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(آل عمران:123).
قال ابن كثير: “قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: يوم بدر، وكان في يوم جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فيهم فرسان وسبعون بعيراً، والباقون مشاة، ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد (الحديد المغطي للبدن)، والبيض (خوذ حديد للرأس)، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيَّض وجه النبي وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّة}(آل عمران:123} أي: قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد”.
إن غزوة بدر من الغزوات العظيمة في أحداثها ومواقفها، وكل انتصارٍ للمسلمين على مر التاريخ والعصور سيظل مديناً لبدر، التي كانت بداية الفتوح والانتصارات الإسلامية، وقد كان للصحابة فيها من المواقف الإيمانية والبطولية الكثير والكثير، ومن هذه المواقف فنرى موقف تمناها الصحابة وهو حسن المشورة مع جمال وإبداع الخبرة
يتجلى فى هذا الموقف الذى رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (شهدتُ من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إليَّ مما عُدِلَ به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا تقول كما قال قوم موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا}، ولكنا نقاتلُ عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجههُ وسره).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تُريدُ يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا) رواه مسلم. هكذا وقع في هذه الرواية أن القائل سعد بن عبادة، وقال غيره أن القائل هو: سعد بن معاذ، ويمكن الجمع بأن النبي صلّى الله عليه وسلم استشارهم في غزوة بدر مرتين، الأولى: وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان فكانت حينئذ قولة سعد بن عبادة وذلك ظاهر في رواية مسلم، والثانية ـ كما في رواية أخرى ـ: بعد أن خرج من المدينة وحينئذ كانت قولة سعد بن معاذ ونرى عجب العجاب حتى فى
حرص الصغار على الجهاد عمير بن أبي وقاص من أصغر الشهداء في غزوة بدر، إذْ لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي، والإصابة لابن حجر وغيرهما: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وعرض عليه جيش بدر ردَّ عمير بن أبي وقاص (أرجعه لصغره) فبكى عمير فأجازه، قال سعد: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، وقد قُتِل بالفعل وهو ابن ست عشرة سنة، فكان أصغر شهداء بدر فتأتى التضحية بالنفس والمسارعة للجنة
عمير بن الحُمام رضي الله عنه أول شهيد من الأنصار في غزوة بدر، وهو مثال عملي من بدر في التضحية بالنفس والمسارعة إلى الجنة، قال عاصم بن عمر بن قتادة: “أول قتيل قُتِل من الأنصار في الإسلام (أثناء القتال) عُمير بن الحُمام”. ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه قصة استشهاد عمير بن الحمام في غزوة بدر فيقول: (فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه (أمامه)، فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخٍ بخٍ (كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه (جعبة السهام) فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتِل) رواه مسلم.
التنافس في الجهاد والجنة : قال ابن حجر: “قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: استهم (اقترع) يوم بدر سعد بن خيثمة وأبوه، فخرج سهم سعد فقال له أبوه: يا بني آثرني اليوم، فقال سعد: يا أبت لو كان غير الجنة فعلت، فخرج سعد إلى بدر فقُتِلَ بها، وقتل أبوه خيثمة يوم أحد”. وهذا الموقف من سعد رضي الله عنه مع أبيه يعطي صورة ظاهرة عن مدى حرص وتنافس الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة بدر على الخروج للجهاد والقتال في سبيل الله، بل وتنافسهم في الحرص على الشهادة والموت في سبيل الله طلباً للجنة، فسعد الابن ووالده خيثمة لا يستطيعان الخروج معاً لاحتياج أسرتهما لبقاء أحدهما، فلم يتنازل أحدهما للآخر عن الخروج للقتال في غزوة بدر، رغبة في أن ينال هو الشهادة، حتى اضطرا إلى الاقتراع بينهما، فكان الخروج من نصيب سعد رضي الله عنه. وكان سعد رضي الله عنه في غاية البر والأدب مع والده، ولكنه كان حريصاً على الجهاد في سبيل الله، مشتاقاً إلى الجنة، ويعبر عن ذلك قوله لأبيه: “يا أبت لو كان غير الجنة فعلت (أي تركتك تخرج أنت)”.
وفي رمضان من العام الثامن من الهجرة كانت محطة فارقة ونقطة فاصلة في حياة الأمة، عندما فتحت جيوش الصحابة بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وأعلنوا سقوط عاصمة الشرك والاستكبار الجاهلي التي طالَما استغل المشركون منزلتها وفضلها في التحريض ضد الإسلام والمسلمين، وأعلنوا تحرير بلد الله الحرام من أدران الشرك والأوثان، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الأمة اتحدت فيها بلاد الحرمين، الأصل والمهجر، وأعلن عن قيام الدولة الإسلامية على حدود جديدة.
أيها المسلمون، عندما قاد المعتصم العباسي جيشًا جرارًا أوله من منابت الزيتون وآخره على أبواب عمورية، وذلك في رمضان سنة 223هـ، بعد أن تجبر طاغية الروم توفيل بن ميخائيل، واستغل انشغال المسلمون بقتال بابك الخرمي في فارس، وهجم بمائة ألف صليبي على حدود الدولة الإسلامية، وأوقع بأهل زبطرة في الأناضول مذبحة مروعة، فقتل الكبير والصغير، فجدع الأنوف وسمل العيون، واستاق الحرائر، حتى إن امرأة هاشمية صاحت بعد أن لطمها كلب رومي فقالت: “وامعتصماه”، وطارت الأخبار للخليفة المعتصم وهو في إيوان قصره، فلما طرقت الصرخة الحزينة مسامع الأسد “المعتصم العباسي” أسرع مهرولًا في قصره وهو يقول مثل الإعصار: “النفير النفير”، وقد خرج بكل ما لديه من جيوش، وأقسم ليهدمنَّ أعزَّ مدينة عند الرومان، وقد كتب وصيته ولبس كفنه وتحنَّط، وقسَّم ماله: ثلثًا لأهله، وثلثًا للمجاهدين، وثلثًا لمنافع المسلمين، ولم يهدأ له بال ولم يستقر له حال حتى أناخ بساحة عمورية بأكثر من مائة ألف مجاهد من ثلاث جهات، ودخل عمورية في السادس من رمضان سنة 223هـ، فهدمها بالكلية، وتركها قاعًا صفصفًا، وأدَّب أعداء الأمة تأديبًا هائلًا، ارتدعوا به فترة طويلة، واستعادت الأمة كرامتها.
وكان رمضان منطلَقًا بالأمة إلى العالمية؛ حيث خرجوا من حدود الجزيرة العربية إلى العالمية، حيث حملوا رايات التوحيد إلى قلب العالم، وذلك مبكرًا جدًّا عندما فتح المسلمون جزيرة رودوس سنة 53هـ، ثم فتحوا الأندلس في معركة وادي لكة الشهيرة سنة 92 هـ، وأصبح غرب القارة الأوروبية مسلمًا يتردد الأذان في جنباته، ثم فتح المسلمون جزيرة صقلية سنة 212هـ، عندما قاد القائد الفقيه المحدث أسد بن الفرات جيوش المسلمين لمعركة سهل بلاطة في التاسع من رمضان سنة 212هـ؛ ليفتح أكبر جزر البحر المتوسط، ويصبح المسلمون على بعد خمسة أميال فقط من إيطاليا، ثم واصل المسلمون انطلاقهم إلى العالمية لنشر التوحيد بين ربوع المعمورة، وفتح العثمانيون – بقيادة سليمان القانوني – بلجراد عاصمة الصرب في رمضان سنة 927هـ، وأصبحت بلجراد مدينة إسلامية، وانتشرت فيها المساجد، حتى بلغ تعدادها 250 مسجدًا قام الصرب بإحراقها جميعًا بعد سقوط الدولة العثمانية.
أيها المسلمون، وانتصر المسلمون بقيادة سيف الدين قطز على جحافل التتار في الخامس والعشرين من رمضان سنة 658هـ، وقضوا على أسطورة التتار الجيش الذي لا يهزم، وكانت تلك الأسطورة قد روعت الناس في كل مكان؛ حيث بلغ من شدة خوفهم ورعبهم من التتار أن الجندي التتري الواحد يدخل السرداب وفيه مائة رجل، فيقتلهم جميعًا وحده بعد أن قتلهم الخوف والفزع من لقاء التتار. وفي 10 رمضان 1363هـ (6 أكتوبر 1973م)، عبر الجيش المصري قناة السويس وحطم خط بارليف، وألحق الهزيمة بالقوات الصهيونية، في يوم من أيام العرب الخالدة التي سطرها التاريخ في أنصع صفحاته بأحرف من نور، ففي هذا اليوم وقف التاريخ يسجل مواقف أبطال حرب أكتوبر الذين تدفَّقوا كالسيل العرم يستردون أرضهم، ويستعيدون كرامتهم ومجدهم؛ فهم الذين دافعوا عن أرضهم وكافحوا في سبيل تطهيرها وإعزازها، فبعد أن احتل اليهود سيناء الحبيبة والجولان والضفة والقدس وغزة في 5 يونيو 1967م، أخذوا يتغنون بأسطورة جيشهم الذي لا يقهر، لكن مصر نجحت بفضل الله في إعادة بناء جيشها وجهزته بالعتاد وخيرة جنود الأرض، وبالتخطيط الجيد مع أشقائها العرب وبإرادة صلبة قوية وإيمان قوي عظيم وبخطة دقيقة محكمة فاجأت إسرائيل والعالم كله الساعة الثانية بعد الظهر، وانطلقت أكثر من 220 طائرة تدك خط بارليف الحصين ومطارات العدو ومراكز سيطرته، وفي نفس الوقت سقطت أكثر من عشرة آلاف وخمسمائة دانة مدفعية، وتعالت صيحات: الله أكبر، وتَم عبور القناة واقتحام حصون العدو وتحطيمها واندحر العدو، وهزم شرَّ هزيمة، ورجعت أرض سيناء كاملة بعد ذلك نتيجة لهذه الحرب المجيدة، في هذا الشهر العظيم، شهر عزة المسلمين والذلة لأعداء الحق أعداء الدين.
معشر الصائمين، إن المتأمل في أسباب إنزال الله نصره لعباده، يجد أنها فضل من الله أفاضه على أوليائه حين انتصروا على نفوسهم؛ فكانوا مؤهلين لتنزُّل النصر عليهم: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج:40].
العنصر الثالث : أعمال تعدل الجهاد فى سبيل الله
السعي على خدمة الأرملة والمسكين
وخاصة ونحن فى شهر رمضان روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار ”
هناك صنف من الناس قد يتمنى أن يجاهد في سبيل الله، وأن يجود بنفسه وماله لينال الدرجات العليا في الجنة؛ ولكن في نفس الوقت قد تتسنى لهذا الصنف فرصة عمل أيسر من الجهاد وله نفس ثوابه، فيتقاعس عن ذلك، مما يدل على جهله أو عدم صدقه في طلب الجهاد.” كثير ما تسنح للواحد منا فرصة خدمة أرملة فنتشاغل عن ذلك، ولو استحضرنا ثواب المجاهدين ومالهم من درجات عالية في جنات النعيم لما بدر منا ذلك. إن الواحد منا لا يخلو من وجود قريبة له كبيرة في السن قد مات عنها زوجها سواء كانت خالة أو عمة أو جدة، وكثيرا ما يطلبن منّا أو من غيرنا خدمة؛ كإيصالها بالسيارة أو قضاء حاجة لها، فيتهرب الواحد منّا كأنه لم يسمع توسلها، أو يدّعي كثرة الأشغال ويتأفف ويتثاقل ذلك الأمر، ويبخل أن يجود من وقته لخدمتها وهو بالأمس كان يتمنى أن يجود بحياته كلها ليكتب عند الله مجاهدا!”
لا شك أن هذا تناقضا وحرمانا من أجر عظيم بجهد يسير، وتفريطا بدرجة من درجات المجاهدين العالية في الجنة لا ينبغي للفطن التفريط فيها.
عدم تأخير الصلاة عن وقتها أو أول وقتها
ومن الأعمال الأخرى التي لها ثواب الجهاد في سبيل الله ما رواه عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال : ” الصلاة على وقتها ” قلت : ثم أي ؟ قال : ” ثم بر الوالدين ” قلت : ثم أي ؟ قال : ” ثم الجهاد في سبيل الله ”
بر الوالدين
ورد ذلك في الحديث المذكور في الفقرة السابقة، ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال : ” أحي والداك ؟ ” قال: نعم. قال: ” ففيهما فجاهد “ إن بر الوالدين من أكثر الأعمال المقربة إلى الله عز وجل، فهو كفارة الكبائر! جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنها فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أُمك حيَّة؟ قال: لا، قال تب إلى الله عز وجل وتقرب إليه ما استطعت. [قال عطاء بن يسار] فذهبت فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة
التمسك بالسُّنَّة زمن الفتن:
روى عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من ورائكم زمان صبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدًا» (صححه الألباني في صحيح الجامع).
التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة:
لقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء بعض الأذكار التي تقال دبر كل صلاة ليسبقوا المتصدقين والمجاهدين من الأغنياء، حيث روى أبو هريرة رضى الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال؛ يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون، قال: «ألا أحدثكم إن أخذتم أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين» فاختلفنا بيننا فقال بعضنا: نسبح ثلاثًا وثلاثين ونحمد ثلاثًا وثلاثين ونكبر أربعًا وثلاثين، فرجعت إليه فقال: «تقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين» (البخاري واللفظ له ومسلم).
فما أحرانا أن نشغل وقت فراغنا بهذا الذكر الذي لا يكلفنا إلا اليسير، فلنجعل لحظات انتظارنا قربة إلى ربنا.
حمد الله تعالى مائة مرة:
قال موسى بن خلف: حدثنا عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنهما قال: قالت: مر بي ذات يوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني قد كبرت وضعفت، أو كما قالت، فمرني بعمل أعمله وأنا جالسة، قال: «سبحي الله مئة تسبيحة، فإنها تعدل لك مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة، تعدل لك مائة فرس مسرجة ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكبري الله مائة تكبيرة، فإنها تعدل لك مائة بدنة مقلدة متقبلة، وهللي الله مائة تهليلة» قال ابن خلف: أحسبه قال: «تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يرفع يومئذ لأحد عمل أفضل مما يرفع لك، إلا أن يأتي بمثل ما أتيت به» (حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
سؤال الله عز وجل الشهادة في سبيل الله:
روى سهل بن حنيف رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» (مسلم).
فالأمر يسير جدًا ويحتاج إلى صدق في النية وإقدام لفعل الخير، ولو لم تستطع ذلك، فقد روى أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة فقال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم» قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة؛ حبسهم العذر» (البخاري واللفظ له ومسلم).