بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد
الدرس الحادى عشر : كلُّ الناسِ يغدو
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى، أما بعد؛ فيا أيها الصائمون: لقد مضى الثلث الأول من شهر رمضان وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ندماً على فوات زمن رمضان هذا الزمن النفيس، وهنا لابد من وقفة بل وقفات مع النفس حتى تتدارك ما فات وتستثمر ما بقى من رمضان لأن النفس إن لم يشغلها صاحبها بالحق شغلته بالباطل لذلك وجب على العبد محاسبة نفسه قبل فوات الأوان؛ قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا؛ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا؛ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا؛ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس: ٧- ١٠)، وعن أبى مالك الأشعرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «كلُّ الناسِ يغدو، فبائعٌ نفسَهُ فمعتقُها أو موبِقُها» رواه الترمذى، والنسائى.
– قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ» رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس.
فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله خف يوم القيامة حسابه؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(الحشر: ١٨)،
– قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادَّخَرْتُم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، واعلموا أنه عالِمٌ بجميع أعمالكم وأحوالكم، لا تخفى عليه منكم خافية.
وقال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾( الأنبياء: ٤٧)، وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» رواه الترمذي.
– وعن ميمون بْنَ مِهْرَانَ، أنه قال: لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يُحَاسَبَ نَفْسَهُ أَشَدَّ مِنْ مُحَاسَبَةِ شَرِيكِهِ، حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ، وَمِنْ أَيْنَ مَلْبَسُهُ، وَمِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ، أَمِنْ حِلٍّ ذَلِكَ أَمْ مِنْ حَرَامٍ ؟ حلية الأولياء.
– ويقول الحسن البصري في قوله تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾(القيامة: ٢)، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ يَقُولُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي، يَقُولُ: مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي، مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي ، فَلَا تَرَاهُ إِلَّا يُعَاتِبُهَا، الزهد، للإمام احمد.
ومن هذا المنطلق اجتهد الصالحون فى محاسبة أنفسهم لعلمهم بخطورة الأمر من ذلك؛
• عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: يحاسب ويخاصم نفسه على سويعات ينامها فيقول: إنى لأحتسب نومتى كما أحتسب قومتي؛ وكان يقول : ما ندمت على شىء ندمى على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلى ولم يزد فيه عملي.
* وهذا أبو مسلم الخولانى يقول: لو رأيت الجنة عياناً ما كان عندى مستزاد؛ ولو رأيت النار عياناً ما كان عندى مستزاد ذلك أنه كان قد جعل سوطاً فى مصلاه فإذا فتر مشق ساقه مرة أو مرتين وقال: لنفسه أنتى أولى بهذا من الدواب.
• ولله در إبراهيم التيمى حيث كان له فى محاسبة النفس شأن عظيم يقول إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ أُعَالِجُ أَغَلَالَهَا وسَعِيرَهَا آكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا وَأَشْرَبُ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا فَقُلْتُ: يَا نَفْسُ أي شئ تَشْتَهِينَ؟ قَالَتْ: أَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا فَأَعْمَلَ عَمَلًا أَنْجُو بِهِ مِنْ هَذَا الْعِقَابِ، وَمَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ مَعَ حُورِهَا وأَلْبَسُ مِنْ سُنْدُسِهَا وإِسْتَبْرَقِهَا وَحَرِيرِهَا قُلْتُ: يَا نَفْسُ أي شئ تَشْتَهِينَ؟ قَالَ: فَقَالَتْ: أَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا فَأَعْمَلَ عَمَلًا أَزْدَادُ فِيهِ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ، قُلْتُ: فَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأُمْنِيَةِ، الزهد، للإمام أحمد.
* ولقد حفر الربيع بن خثيم، قبراً فى قعر داره، فكان إذا وجد في قلبه قسوة نزل فاضطجع فيه ثم يقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾فيرددها مراراً، ثم يرد على نفسه: قد رُجعتك فجد؛ يا ربيع قد رُجعت فاعمل صالحاً، إحياء علوم الدين. • وجلس توبة بن الصمة رحمه الله يوماً يحاسب نفسه فإذا هو ابن ستين عاماً فحسب أيامها فوجدها واحد وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ قائلاً: يا ويلتى؟ ألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب؟ هذا إذا كان لى فى اليوم ذنب واحد فكيف ولى فى اليوم عشرات الذنوب ؟ بل مئات الذنوب ثم خر مغشياً عليه، صفة الصفوة.
• وكان الأحنف بن قيس رضى الله عنه يضع إصبعه فى المصباح حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه : حس يا حنيف ماحملك على ما صنعت يوم كذا ؟ صفة الصفوة.
• وكان حسان بن أبى سنان يحاسب نفسه بشدة فمر يوماً بغرفة فقال: متى بنيت هذه الغرفة؟ ثم أقبل على نفسه فقال : تسألين عما لا يعنيك؟ لأعاقبنك بصوم سنة فصامها.
• قال محمد بن المنكدر: كان زياد بن أبى زياد يخاصم نفسه فى المسجد يقول: اجلسى أين تريدين؟ أين تذهبين؟ اتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد؟! أنظرى إلى ما فيه تريدين أن تبصرى دار فلان ودار فلان ودار فلان؟ وكان يقول لنفسه : ومالك من الطعام يا نفس إلا هذا الخبز والزيت وما لك من الثياب إلا هذين الثوبان وما لك من النساء إلا هذه العجوز افتحبين أن تموتى ؟ فقالت: أصبر على هذا العيش.
هكذا حاسب الصالحون أنفسهم وأخذوها بالحزم حتى يبلغوا رضوان الله رب العالمين.
وصدق القائل:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.
– ولما سئل ذو النون المصرى بما ينال العبد الجنة؟ قال بخمس: استقامة ليس فيها روغان – واجتهاد ليس معه سهو – ومراقبة الله تعالى فى السر والعلن- وانتظار الموت بالتأهب له – ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب.
– وكان من وصايا الحسن بن على رضى الله عنه : يا ابن آدم إنك فى مطيتين يوضعانك الليل إلى النهار والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى الآخرة.
فانظر كيف كان حال هؤلاء مع المحاسبة؟
لكن للأسف الشديد هناك صنف من الناس لايحاسب نفسه، حتى فى شهر رمضان مع أن رمضان ساحة لمحاسبة النفس، ويعيش فى غفلة شديدة ولا ينتبه إلا بعد فوات الأوان قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(المؤمنون: ٩٩ – ١٠٠)،
فجدير بالمسلم يتدارك ما فاته من رمضان، ويجتهد فيما بقى ويحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾(البقرة: ٢٨١)، قال النبى ﷺ: «ما من أحد يموت إلا ندم قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: «إن كان محسناً ندم ألا يكون قد ازداد وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون نزع» رواه الترمذى والبيهقى.
معاشر الصائمين: إن الخطر كل الخطر أن يغفل العبد عن محاسبة نفسه وألا يتعظ بغيره حتى يوعظ به فقد خرج الإمام الحسن البصرى يتبع جنازة فلما فرغوا من دفنها قال الحسن لشيخ كبير: أسألك بربك أتظن أن هذا الميت يود أن يرد إلى الدنيا فيتزود من عمله الصالح ويستغفر من ذنوبه؟ قال الشيخ : اللهم نعم قال الحسن البصرى: يالها من موعظة وما أنفعها لو كانت بالقلوب حياة ؟!
– فتزكية النفس وتطهيرها لا تكون إلا بالمدوامة على محاسبتها على كل ما تفعل ذلك أن النفس بطبيعتها تميل إلى حب الشهوات قال تعالى:(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ)(آل عمران: ١٤)،
– قال عبد الله بن المبارك: كان الصالحون تواتيهم أنفسهم على الخير طوعاً وإن أنفسنا لا تواتينا على الخير إلا كرها.
وصدق القائل :
يا خادم الجسم كم تشقى فى خدمته
أقبل على النفس واستكمل فضائله فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
واعلموا من أعظم ما يعين العبد على محاسبة نفسه علمه بحقيقة الدنيا؛ قال تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾(النساء: ٧٧)،
– وروى الإمام المقدسى عن أبى ذر الغفارى رضى الله عنه قال: أوصانى خليلى ﷺ بأربع كلمات هن أحب إلىّ من الدنيا وما فيها فقال لى: «يا أبا ذر أحكم السفينة فإن البحر عميق واستكثر من الزاد فإن السفر طويل وخفف الحمل فإن العقبة كؤود واخلص العمل فإن الناقد بصير».
– فالناس فى الدنيا ما بين مقيم وراحل فكل نَفَس يتنفسه الإنسان يدنيه من أجله فأعقل الناس من حاسب نفسه يوماً بعد يوم.
– قال على بن طالب رضى الله عنه: ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل لا حساب وغداً حساب ولا عمل.
– وكتب بعض الصالحين إلى أخ له: إعلم يا أخى أنه يخيل إليك أنك مقيم وأنت دائب السير تساق سوقاً حثيثاً والموت متوجه إليك والدنيا تطوى من ورائك وما مضى من عمرك فلن يرجع إليك.
– ولقد أوصى لقمان ابنه فقال: يابنى لا تركن إلى الدنيا ولاتشغل قلبك بها فإنك لم تخلق لها وما خلق الله خلقاً أهون عليه منها يا بنى: إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كتير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان بالله وشراعها التوكل على الله عزّ وجل لعلك تنجو وما أراك ناجيا!!
فاتقوا الله عباد الله: وأحسنوا فيما بقى من رمضان وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.