الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد: فيا عباد الله: إن الصيام من أعظم العبادات التي تربي النفوس على الإخلاص، والصيام هو العبادة الوحيدة التي خصت بالإخلاص؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال النبي ﷺ: قال الله عزَّ وجلَّ: «كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ» متفق عليه.
وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾(البينة: ٥)، والأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما بما في القلوب، والصوم يربينا على الإخلاص، فهو عبادة خفية، وسر بين العبد وربه.
– ولهذا قال العلماء: الصوم لا يدخله الرياء بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها،
– قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه إلى نفسه.
– وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم.
– وقال ابن قدامة: إن في الصوم خصيصة ليست في غيره، وهي إضافته إلى الله عز وجل، وفضل الصوم لمعنيين، أحدهما أنه سر وعمل باطن لا يراه الخلق ولا يدخله رياء، والثاني أنه قهر لعدو الله.
– وقال ذو النون المصري: ثلاث من علامات الإخلاص، استواء المدح والذم، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيان اقتضاء ثواب العمل في الآخرة.
– فالصوم معاشر الصائمين: عبادة خفية وسر بين العبد وربه؛ فعليلكم بالإخلاص، فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؟ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب؟ أعاذنا الله وإياكم من ذلك.. ولقد أكد سيدنا رسول الله ﷺ على هذا المعنى بقوله: «إيماناً واحتساباً»،
– ولقد حرص السلف على إخفاء أعمالهم خوفاً على أنفسهم.
– قال سفيان الثوري: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
عباد الله: ما هي علاقة الصوم بالإخلاص؟
– ويوضح الإمام أبو حامد الغزالي هذه العلاقة، وسبب نسبة فضل الصيام إلى الله؛ حيث إن الصيام العبادة الوحيدة التي اختَصَّ الله سبحانه وتعالى ثوابها لنفسه؛ وذلك لتحقيق ركن الإخلاص، فالصوم كفٌّ وترك، وهو سر وليس عملاً يُشاهَد بين الناس، وسائر العبادات والطاعات تكون بمشهد من الخلق، وقد يتسرَّب إليها شركُ السرائر الذي حذَّر منه النبي ﷺ، حيث قال: «أيها الناس إياكم وشرك السرائر» قالوا : يا رسول الله، وما شرك السرائر ؟ قال: «يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته، جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر» رواه ابن خزيمة.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾(الزُّمر: ٦٥)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:«أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكِهِ» رواه مسلم.
– إن الإخلاص للهِ تعالى هو أساس كل عملٍ، وغايةُ كل مُرِيد، فعملٌ بلا إخلاص لا أجرَ له، وصلاةٌ بلا إخلاص لا ثواب لها، وصدقةٌ بلا إخلاص لا قيمة لها. قلوبُ المُخلِصينَ لها عيونٌ ترى ما لا يراه الناظرونا وأجنحةٌ تطيرُ بغيرِ ريشٍ إلى ملكوت ربِّ العالمينا فتسقيها شرابَ الصدق صِرْفًا وتشرب مِن كؤوس العارفينا
عباد الله: لقد كان الصالحون على حذر شديد من الوقوع فى الرياء ومن أمثلة ذلك: • محمد بن أسلم: يقول: لو قدرت أن أتطوَّع حيث لا يراني ملكاي لفعلتُ؛ خوفًا من الرياء.
• الربيع بن خُثيم: الذي قال له ابن مسعود: يا أبا يزيد، لو رآك رسولُ الله ﷺ لأحبَّك، ما رُئي متطوعاً في مسجد قومِه قط إلا مرة واحدة.
• عبدالله بن المبارك: يقول عنه محمد بن أعين: كان ذات ليلة ونحن في غَزاةِ الروم، ذهب ليضع رأسه ليُريني أنه ينام، فقلت أنا برمحي في يدي قبضت عليه، ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك، قال: فظنَّ أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، وأنا أرمُقُه، فلما طلع الفجر أيقظني وظن أني نائمٌ، وقال: يا محمد، فقلت: إني لم أنَم، قال: فلما سمِعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني ولا ينبسط إليَّ في شيء من غزاتِه كلِّها، كأنه لم يُعجِبه ذلك مني، لما فطِنتُ له من العمل، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أرَ رجلًا أسرَّ بالخير منه.
• منصور بن المعتمر: كان إذا صلى الفجرَ أظهر النشاط لأصحابه، ويملي عليهم الحديث، ولعله بات قائماً على أطرافه، كلُّ ذلك ليُخفي عنهم العمل.
• عمر بن عبدالعزيز : كان له دراعةٌ من شَعر وغُلٌّ، وكان له بيتٌ فيجوف بيت يصلي فيه، لا يدخل فيه أحدٌ، فإذا كان في آخر الليل فتح ذلك السفط، ولبِس الدراعة ووضع الغُلَّ في عنقه، فلا يزال يناجي ربَّه ويبكي حتى يطلع الفجر.
• حسان بن أبي سنان: تقول عنه زوجه: كان يجيء فيدخل في فراشي، ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيَّها، فإذا علِم أني قد نمت سَلَّ نفسه فخرج، ثم يقوم يصلي، قالت: فقلت له: يا أبا عبدالله، كم تُعذِّب نفسك، ارفُقْ بنفسك، فقال: ويحَكِ، اسكتي، يُوشِك أن أرقد رقدةً لا أقوم منها زمانًا.
• زين العابدين بن علي بن الحسين: كان يحمل جرابَ الخُبز على ظهره بالليل ويتصدق به، ويقول: «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب»
قال عمرو بن ثابت: لَمَّا مات علي بن الحسين فغسَّلوه جعَلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره، فقالوا: ما هذا؟ قالوا: كان يحمل جراب الدقيق ليلًا على ظهره يعطيه فقراء المدينة، وقال محمد بن إسحاق: كان ناسٌ من المدينة يعيشون لا يدرون مِن أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤتَون به في الليل.
* ولقد صام داود بن أبي هند أربعين سَنةً لا يعلَمُ به أهله ولا أحدٌ، وكان خزَّازًا يحمل معه غداءَه مِن عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيّاً فيُفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهلُه أنه قد أكل في السوقِ.
• عمرو بن قيس الملائي: أقام عشرين سنةً صائماً، ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت، فيتصدق بغدائه ويصوم، وأهله لا يدرون، وكان إذا حضرته الرِّقَّةُ، يحوِّل وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشدَّ الزكامَ.
• يقول إبراهيم بن أدهم: لا تسأَلْ أخاك عن صيامه، فإن قال: أنا صائمٌ، فرِحَت نفسه بذلك، وإن قال: أنا غير صائم، حزنَتْ نفسه، وكلاهما من علامات الرياء، وفي ذلك فضيحةٌ للمسؤول، واطلاعٌ على عوراته.
• وعن محمد بن واسع قال: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة وقد بلّ ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي جنبه.
• وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك فإذا كان عند الصباح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
عباد الله: إن الإخلاص يورث نعيم الجنة؛ قال تعالى:﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾(الصافات: ٣٩-٤٠)، والإخلاص يُطهِّر قلبَك مِن الحقد، والغلِّ، والخداع؛ فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهن قلبُ امرئ مسلم؛ إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط مِن ورائهم» رواه أحمد وبن ماجه.
فاتقوا الله عباد الله: وأنتم فى شهر الإخلاص، وكونوا من عباد الله المخلصين، واحذروا الرياء فإنه مُحبط للأعمال، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه راجى عفو ربه أيمن حمدى الحداد الثلاثاء ٤ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً الموافق ٤ من مارس ٢٠٢٥ ميلادياً