خطبة بعنوان ( يا باغي الخير أقبل ) لفضيلة الدكتور محمود الشال

خطبة بعنوان ( يا باغي الخير أقبل )
لفضيلة الدكتور محمود الشال

 

الحمد لله ما تعاقبت الليالي والأيام، والحمد لله عدد الشهور والأعوام، ولا إله إلا الله الذي لا تتصور عظمته الأوهام، والله أكبر ذو الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، مُدَهِّر الدهر ومدبر الأمر ومقدر اليوم والليلة والسنة والنهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى يوم الدين

وبعد،،

فها قد هلت البركات ولاحت في الأفق نسائم الرحمات، وبالأشواق تبتهج النفوس بقدوم شهر النفحات؛ حيث تشرق بعظيم فضل الله فيه على من أقبل بقلب شق عليه ما تعرض له على مدار شهور العام من هنَّات.

وكأني بمنادي الخير ينادي أهل الخير للإقبال حيث مغفرة الذنوب وطهارة النفوس وتهلل الأرواح، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) سنن الترمذي.

يا باغي الخير: أي يا طالبه

يا باغي الشر: أي يا طالبه

إنه ترغيب وحث لمن يقبل على الخير والعبادة والعطاء؛ لأن الثواب مضاعف في رمضان عن غيره، إنه هو شهر فضيل كله بركة، ألا ترى أن فيه ليلة القدر التي يعوض الله فيها أعمار الأمة القصيرة بالثواب العظيم، فهي كما قال الله تعالى: ﴿خير من ألف شهر﴾.

وقد ذكر العلماء أن الأزمان الشريفة يضاعف فيها الثواب عن غيرها، وهذا ما أكده حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة وأحمد، عن طلحة بن عبيد الله: أنَّ رَجُلَينِ قَدِما على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان إسلامُهما جَميعًا، وكان أحَدُهما أشَدَّ اجتِهادًا مِن صاحِبِه، فغَزا المُجتَهِدُ منهما، فاستُشهِدَ، ثم مَكَثَ الآخَرُ بَعدَه سَنةً، ثم تُوُفِّيَ، قال طَلحةُ: فرأيتُ فيما يَرى النَّائِمُ كأنِّي عِندَ بابِ الجَنَّةِ إذا أنا بهما وقد خرَجَ خارِجٌ مِنَ الجَنَّةِ، فأذِنَ للذي تُوُفِّيَ الآخِرَ منهما، ثم خَرَجَ فأذِنَ للذي استُشهِدَ، ثم رَجَعا إليَّ فقالا لي: ارجِعْ؛ فإنَّه لم يَأْنِ لكَ بَعدُ. فأصبَحَ طَلحةُ يُحدِّثُ به الناسَ، فعَجِبوا لذلك، فبلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: (مِن أيِّ ذلك تَعجَبونَ؟) قالوا: يا رَسولَ اللهِ، هذا كان أشَدَّ اجتِهادًا، ثم استُشهِدَ في سَبيلِ اللهِ، ودخَلَ هذا الجَنَّةَ قَبلَه. فقال: (أليس قد مَكَثَ هذا بَعدَه سَنةً؟) قالوا: بلى. (وأدرَكَ رَمَضانَ فصامَه؟) قالوا: بلى. وصلَّى كذا وكذا سَجدةً في السَّنةِ؟ قالوا: بلى. قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (فمَا بَينَهما أبعَدُ ما بَينَ السَّماءِ والأرضِ).

فيا لها من بركة في رمضان، ويا له من خير عظيم لمن يجتهد فيه ويشمر عن ساعد الجد..

فهذا عن مضاعفة الثواب، لذلك ينادي المنادي: يا باغي الخير أقبل، ولأنه كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن لله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)،

قال العلماء يحتمل أن يكون القصد أن لله عتقاء من النار في كل ليلة من ليالي السنة، غير أن الله يضاعف العتق في رمضان عن غيره،

فيا باغي الخير أقبل أنه شرف الزمان الذي يضاعف الله فيه العتق من النار.

فإن مما يدعو إلى التفكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص لفظ العتق تحديدا، والعتق لا يكون إلا من قيد، فكأن الله يعتق من النار من وجبت له النار بفضل هذا الشهر المبارك، فيا له من فضل عظيم يتناسب مع نداء المنادي من قبل الله: يا باغي الخير أقبل.

ويا حسرة من تخاذل وتباطأ أو انقلب على عقبه فأضاع نفسه وزاد في قلبه الران!

فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر ودعا باغي الخير، فقد حذر باغي الشر أي طالب الشر ودعاه إلى أن يقصر أي يتوقف عن طلب الشر لأنه كما أن الثواب مضاعف في الشهر الفضيل لشرف الزمان، فكذلك الشر يضاعف لاقترافه في شرف الزمان أيضا.

أرأيت لو أن جيشا انتهك حرمة زمن الهدنة، أيتساوى مع التعدي في زمن الحرب!

لا يستويان، لأن الهدنة لها خصوصيتها ومن ينتهكها يكون من الخائنين لا شرف له ولا ذمة ولا عهد لا عند الله ولا عند الناس.

وفي هذا إلحاق بفضل الأشهر الحرم التي يحرم انتهاكها بقتال إلا إذا كان دفاعا عن النفس.

فكأن شهر رمضان المبارك بما حباه الله من شرف وفضل قد أُلحق بالأشهر الحرم في مضاعفة حرمة ارتكاب الذنوب والمعاصي فيها.

ولما كان هذا فيل عظيم لشهر فضيل له اسم فريد، فعلينا أن نسأل: لماذا سمي رمضان بهذا الإسم؟

اعلم أن الإسم مشتق من كلمة “رمضاء” وهي شدة الحر.

– قيل رمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش.

– وقيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الإرماض وهو الإحراق.

– وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس.

فرمضان يرمض الذنوب ويحرقها فينفي عن النفس ذنوبها كما تنفي النار الحارة عن الحديد الصدأ، ولما لا وقد قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: : (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) متفق عليه.

وعن مالك بن الحويرث قال: (صعِد رسولُ اللهِ المنبرَ فلمَّا رَقِيَ عتبةً قال: آمينَ. ثمَّ رَقِيَ أُخرَى فقال: آمينَ. ثمَّ رَقِيَ عتَبةً ثالثةً فقالَ: آمينَ، ثمَّ قال : أتاني جبريلُ فقال: يا محمَّدُ! مَن أدرك رمضانَ فلم يُغفَرْ لهُ فأبعدَه اللهُ. فقلتُ: آمينَ……) حسن صحيح.

وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وأخره عتق من النار.

وهو شهر فيه من نفحات الله ما فيه وقد هيأ الله عز وجل أسباب تحصيل الفضائل ومغفرة الذنوب بتصفيد الشياطين، فعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين) صحيح مسلم.

وفي رواية أخرى: (وسلسلت الشياطين).

واعلموا أيها الأحبة أن هذا الشهر الكريم المبارك له فضائل أخرى كثيرة، منها:

أنه أنزل فيه القرآن، قال تعالى: قال تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰت مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُۖ..﴾، فهذا نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان.

وتحديدا في ليلة القدر التي فضل الله بها الشهر وفضلها بتخصيص نزول القرآن فيها جملة واحدة، قال تعالى: ﴿حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ يعني ليلة القدر، وقال تعالى: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾.

قال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوما- يعني الآية والآيتين- في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة.

وروى واثلة بن الأسقع عن النبي ﷺ أنه قال: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين).

ومن أهم ما فضل الله عز وجل به الشهر المبارك أن الله عز جل اختصه بأن فرض الصيام فيه على أمة الإسلام، قال تعالى: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ أي من شهد شهر رمضان صحيحا معافى مقيما فليصمه.

وقد أخبرنا النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن فضل الصيام، فقال: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)(رواه البخاري ومسلم).

والصيام يشفع لصاحبه بين يدي الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: (الصيامُ والقرآنُ يَشْفَعانِ للعبدِ، يقولُ الصيامُ: أَيْ رَبِّ! إني مَنَعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ، فشَفِّعْنِي فيه، ويقولُ القرآنُ: مَنَعْتُهُ النومَ بالليلِ، فشَفِّعْنِي فيه؛ فيَشْفَعَانِ).

ويكفي رمضان فخرا أنه شهر الفرح في الدنيا والآخرة: ففي صحيح مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ). فالفرحة الأولى بتمام النعمة وإكمال العبادة، والثانية بعظيم الأجر والمثوبة.

ومن فضائل رمضان والصيام فيه أن للصائم فيه دعوة مستجابة كما أخبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثُ دَعواتٍ لا تُرَدُّ: دعوةُ الوالِدِ لِولدِهِ، ودعوةُ الصائِمِ، ودعوةُ المسافِرِ).

وفيه أيضا (ثلاث لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم).

وعن عمرو بن العاص مرفوعا: (إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد).

وفي قيام رمضان خاصة فضل عظيم حيث مغفرة الذنوب بقيامه، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)(متفق عليه).

أسأل الله العظيم أن يعيننا على صيام رمضان وقيامه وأن كتب لنا فيه عتقا من النار، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله الأمين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله إلى يوم الدين،

وبعد،،

فإن هذا الشهر المبارك قد بارك الله فيه كل عمل حتى أنه بارك عمل المرابطين المنافحين عن الدين والوطن، فقد كتب الله فيه النصر للأمة في مواقع كثيرة حاسمة في تاريخها، منها:

– غزوة بدرالكبرى، في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.

– فتح مكة، في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.

– معركة القادسية، في رمضان سنة خمسة عشر للهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص.

– فتح بلاد الأندلس، كان في رمضان سنة 92 هـ بقيادة طارق بن زياد.

– معركة عين جالوت كانت في رمضان سنة 685 بقيادة السلطان قطز، والقائد العسكري بيبرس.

– موقعة حطين، كانت في رمضان سنة 584 هـ بقيادة صلاح الدين.

– وأخيرا انتصار السادس من أكتوبر ١٩٧٣م العاشر من رمضان ١٣٩٣ه وفيه انتصرت القوات المسلحة المصرية على العدو الصهيوني المتربص وأعوانه.

فاللهم اكتب لأمتنا النصر على أعدائها واحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء، اللهم اكتب لنا الصيام والقيام وقراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار.

اترك تعليقاً