خطبة بعنوان ( أقبل شهر المغفرة والخيرات .. يا باغي الخير أقبل )
لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف
الحمد لله العزيز الغفار، الواحد القهار، يكور النهار على الليل، ويكور الليل على النهار ، تبصرة لأولي القلوب والأبصار ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله النبي المصطفى المختار اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل بيته وأزواجه الأطهار، وعلى أصحابه المهاجرين والأنصار، وعلى مَنْ سار على طريقهم واتبع هداهم ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليما كثيرا ..
يدور الزمان وتمر الشهور والأيام ونستقبل كل عام شهر هو خير الشهور وسيدها شهر أنزل الله فيه القرآن ..
ساعات بمشيئة الرحمن نستقبل شهر البركات والخيرات والمنح والهبات ، شهر العطايا الربانية والمنح الإلهية ..
نستقبل موسما عظيما؛ جعله الله مَيدانا يتنافس فيه المتنافسون، ومضمارا يتسابق فيه الصالحون، ومجالا لتهذيب النفوس، وتزكية القلوب..
بدا عليه من الأنوار إكليل شهر تحاياه تكبير وتهليل
شهر عليه من الإجلال روعته له بكل بقاع الأرض تبجيل شهر الهدى والتقى والصوم حين بدت أنواره زهقت منه الأباطيل
شهر تفتح أبواب النعيم به والتوب فيه من العاصين مقبول .
شهر السعادة فيه النسك منطبع على القلوب وفيه العفو مكفول
الله عظمه قدرا وفضله وليس بعد كلام الله تفضيل..
فمرحباً بسيد الشهور، وخيرها على مر العصور، مرحباً بمقدم الضيف الحبيب، كنز المتقين، وفرصة التائبين لله رب العالمين .
لو تكلمنا عن بعض فضائله، ما وسعنا الزمان في ذكر محاسنه، وحسبنا أنه الشهر الوحيد الذي صرح به في القرآن الكريم ،
قال عز وجل: (( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)) ..البقرة/١٨٥..
إنه الشهر الذي تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب النار ..
روى الإمامان البخاري ومسلم عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبْوَابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوَابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ ” ..
إنه الشهر الذي ينادي فيه الملائكة على عباده ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿إذا كانَت أوَّلُ ليلةٍ من رمَضانَ صُفِّدتِ الشَّياطينُ ومَردةُ الجِنِّ وغلِّقت أبَوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ وفُتِحت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ ونادى منادٍ يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر وللَّهِ عتقاءُ منَ النَّارِ وذلِك في كلِّ ليلةٍ ﴾.. أخرجه الإمام الترمذي وسنده صحيح ..
العنصر الأول : يا باغي الخير كيف تستقبل شهر رمضان ..
إن من نعم الله تعالى على عباده، أن جعل لهم مواسم عظيمة للخيرات، تكثر فيها الطاعات ، وتُغفر فيها السيئات وتُضاعف فيها الحسنات، وتتنزل فيها الرحمات،
ومن أجلِّ هذه المواسم وأكرمها:
شهر رمضان المبارك .. شهر الصيام والقيام ، وشهر الرحمة والغفران ، والعتق من النيران، وشهر الطاعة والإيمان ، و الجود والكرم والإحسان ..
وفي جهاد الأعداء قال تعالى: “وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً” التوبة ٤٦..
وفي جهاد النفس البشرية واستقبال شهر رمضان أيضا يجب أن نعد العدة يا إخوة الإسلام ..
يا باغي الخير أقبل بفتح صفحة جديدة بيضاء مشرقة مع الله سبحانه وتعالى بالتوبة الصادقة ..
فمن لم يتب في شهر رمضان فمتى يتوب؟! ،
قال الله – تعالى -: ” وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ”[النور: 31] ،
وفتح صفحة بيضاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر.- وفتح صفحة بيضاء مع الوالدين والأقارب، وصلة الأرحام وحسن معاملة الأهل والازواج ..
وفتح صفحة بيضاء مع المجتمع الذي نعيش فيه ، ومسامحة الجيران ونفع المحتاجين .. فخير الناس أنفعهم للناس ..
يا باغي الخير أقبل بالحمد والشكر على نعمة بلوغه وإداركه ..
فكم من أناس صاموا شهر رمضان في العام الماضي وهم الآن يرقدون تحت التراب ينتظرون من الأحياء دعوة صالحة ..
ثم أقبل بالدعاء عند رؤية هلال الشهر وفق سنة الحبيب ﷺ
كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلاَلَ قَالَ : « اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ » أخرجه الإمام أحمد وسنده صحيح ..
يا إخوة الإسلام استقبلوا شهر رمضان : بالفرح والابتهاج ، فقد ثبت عن رسول الله أنه كان يُبَشِّرُ ويهنئ أَصْحَابَهُ في شعبان بمجيء شهر رمضان :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :
« قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ »}.. [أخرجه أحمد] وفيه مقال..
ومن أبواب الخير الحرص على افطار الصائمين ، وإطعام المحتاجين ..
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم : « مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئ .. رواه الترمذي
كما على المسلم أن يؤسس كل الأعمال على الإخلاص لله رب العالمين ..
قال تعالى : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)الكهف/١١٠..
فالإخلاص روح الطاعات، وعليه مدار الأعمال ، ومفتاح لقبول الباقيات الصالحات ..
يا باغي الخير أقبل..
ما أجمله من نداء ، وما أجزله من عطاء.. نداءٌ للخيرِ..ووعد بالخير طوال الشهر..
يا باغي الخير أقبل نداء جليل محبب إلى النفوس الطاهرة فيه صوت الرَّحمةِ والشَّفقةِ من ربٍّ رحيمٍ بعبادِه .. يناديهم بالتَّوبةِ من الذُّنوبِ .. والرُّجوعِ إليه في شهرٍ فُتحتْ فيه أبوابُ الجِنانِ .. وأُغلقتْ فيه أبوابُ النِّيرانِ .. وصُفِّدتْ فيه الشَّياطينُ .. ولله عُتقاءُ في كلِّ ليلةٍ..
فبسبب الخير ترفع قيمة العبد ومكانته عند الله ، ويسمو إلى أفق الملائكة ، وبسبب معصيته وخلوده إلى الأرض حطت مكانته ، فصار مثل الكلاب في انحطاطها ومهانتها ..
قال جل جلاله :﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [ الأعراف: ١٧٦/١٧٥]..
“وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا” أي: علمناه كتاب الله، فصار العالم الكبير والحبر النحرير ..
{فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات الله، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فترك هذا كتاب الله وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس ..
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزا.
{فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} بعد أن كان من الراشدين المرشدين.. (تفسير السعدي)
فالرجوع إلى الله والالتزام بأوامره يرفع من قدر العبد ، ولكن إذا ركن إلى الدنيا واتبع هواه، وآثر لَذَّاته وشهواته على الآخرة، وامتنع عن طاعة الله وخالف أمره. فَمَثَلُ هذا العبد كمثل الكلب لاهثًا على كل حال ..
العنصر الثاني : يا باغي الشر أقصر ..
ما أشده من تحذير، وما أرهبه من نداء لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. إليكَ يا منْ تساهلتَ في حِفظِ سمعِكَ وبَصرِكَ .. فنَظرُكَ يتقلَّبُ في مفاتنِ كُلِّ فاسقةٍ سافرةٍ .. وسمعُكَ مملوءٌ بوَسخِ المَعازفِ وكلماتِ الغناء .. ولا يعلمُ المِسكينُ أنه واقعٌ في نوع من أنواعٍ من الزِّنا .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، يصدق ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ” .. أخرجه الإمام مسلم ..
وإن نظرتَ إلى هذا النِّداءِ (يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ) من زاويةٍ أُخرى .. وجدتَ فيه الوعيدَ الشَّديدَ .. والإنذارَ والتَّهديدَ .. لمن استعدُّوا لرمضانَ .. بكلِ وسائلِ صَرفِ العِبادِ عن فضيلةِ الزَّمانِ .. فها هيَ إعلاناتُهم الكثيرةُ .. في فُنونِ إهدارِ أوقاتِ المُسلمينَ الثَّمينةِ .. فوازيرُ ومُسلسلاتُ .. وخيمةُ رمضانَ وتفاهاتُ .. ولقاءاتُ نُجومِ العَفنِ الفني من فاسقينَ وفاسقاتِ .. موسيقى وسفورٌ .. واختلاطٌ مُحرمٌ وفُجورٌ .. والعجبُ كلَّ العجبِ .. وهم يُحَادُّونَ اللهَ تعالى في حكمتِه .. فهو سبحانَه جعلَ رمضانَ لمغفرةِ الذُّنوبِ وعِتقِ الرِّقابِ من النَّارِ .. وأوصى فيه بأنواعٍ كثيرةٍ من الطَّاعاتِ .. وفرضَ صومَه للتَّقوى والتَّخلُّصِ فيه من الشَّهواتِ .. وهم جعلوه شهرَ هَزَلٍ ومُجونٍ وسَخافاتٍ .. (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) [البقرة: 221]..
فاختاروا لأنفسكم يا أخوة الإسلام
وإياكم ودُعاةَ الشَّرِ .. الذينَ يَسرقونَ منكم أغلى الأوقات .. ويَحولونَ بينَكم وبينَ مغفرةِ ربِّكم .. ولا يُريدونَ أن تكونوا من عُتقاءِ شهرِكم .. ويومَ القِيامةِ يتبرئونَ منكم ..
فمن أعظم الخسران، وأكبر الحرمان:
أن يدرك المرء هذا الشهر الكريم المبارك،
فلا تغفر له فيه ذنوبه،
ولا تحط فيه خطاياه؛
لكثرة إسرافه ، وعدم توبته،
فيدخل عليه هذا الشهر الكريم ويخرج، وهو مستمر في غيه ،ومتماد في تقصيره، غير مُقبِل على ربِّه عزّ وجل ..
فمن لم يصلي ويعبد ربه ويبتعد عن المعاصي والمحرمات ، ويقصر عن الشر فمتى يعود إلى ربه ؟! .
فعن جابر بن سمرة : ﴿صعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنبرَ ، فقال : آمين ، آمين ، آمين ، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك ، فقال : أتاني جبريلُ ، فقال : رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له ، قُلْ : آمين ، فقلتُ : آمين ، ورغِم أنفُ امرئٍ ذُكِرتَ عنده فلم يُصلِّ عليك ، قُلْ : آمين ، فقلتُ : آمين ، ورغِم أنفُ رجلٍ أدرك والدَيْه أو أحدَهما فلم يُغفرْ له ، قُلْ : آمين ، فقلتُ : آمين ﴾.. أخرجه الإمام الطبراني وسنده حسن ..
أي: خاب وخَسِر كل الخيبة والخسران ، ومرغ أنفُه بالتُّرابِ كلُّ مَن أدرَك شَهرَ رمَضانَ، فكَسِلَ عن العِبادةِ ولم يَجتَهِدْ حتَّى انتَهى الشَّهرُ رمضان فلم يَظفَرْ ببرَكةِ الشَّهرِ الكريمِ ولم يُغفَرْ له..
يا باغي الشر أقصر عن تضيع وقتك في شهر رمضان في البرامج والحلقات ، ووسائل التواصل والمسليات ..
ويا باغي الشر أقصر عن تضييع أيامه بالنوم ولياليه بالسهر ، فمن كان هذا ديدنه فلم يستفد من شهره شيئا بل لربما كان وبالا عليه ..
بل يجب أن تستثمر وقتك في العبادات والطاعات ، ومن أمتع العبادات والطاعات صلاة القيام في العام ، لكنها في شهر رمضان لها روحانية خاصة ، وهي من أهم أسباب مغفرة الذنوب والسيئات أيضاً فهي عبادة لا تستغرق مع صلاة العشاء والوتر ساعة تطمئن القلوب وتزيد الإيمان وتكون من أسباب الغفران ..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (متفق عليه).
كما أنها تنير المساجد بالطاعة والإيمان ..
مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَفِيهَا الْقَنَادِيلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: “نَوَّرَ اللهُ عَلَى عُمَرَ قَبْرَهُ كَمَا نَوَّرَ عَلَيْنَا مَسَاجِدَنَا”. [ تَارِيخِ الْخُلَفَاءِ لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللهُ]..
وإن أشرف الذكر تلاوة القرآن وهو من أفضلِ الأعمالِ على الإطلاقِ، بلْ هيَ التجارةُ الرابحةُ، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}. (فاطر: 29)..
قال الإمام الزهري : “إذا دخل رمضان، إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام ” ..
وإن عبادة الدعاء في شهر رمضان على رأس أعمال الصالحات ، ذلكم أن مواطن الدعاء، ومظانَّ الإجابة تكثر في هذا الشهر ، فلا غَرْوَ أن يُكْثِر المسلمون فيه من الدعاء ..
ولعل هذا هو السر في أن الله حث علي عباده على الدعاء والمناحاة أثناء آيات الصيام ..
قال جل جلاله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ).
ودعوة الصائم مستجابة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ والإمامُ العادلُ ودعوةُ المظلومِ يرفعُها اللهُ فوق الغمامِ وتُفتَّحُ لها أبوابَ السَّماءِ ويقولُ الرَّبُّ وعزَّتي لأنصُرنَّك ولو بعد حينٍ ” .أخرجه الإمام الترمذي وسنده صحيح ” ..
العنصر الثالث : حالنا وحال السلف في شهر رمضان ..
ما جاء في سنة النبي ﷺ ” أنَّ رَجُلَينِ قَدِما على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان إسلامُهما جَميعًا، وكان أحَدُهما أشَدَّ اجتِهادًا مِن صاحِبِه، فغَزا المُجتَهِدُ منهما، فاستُشهِدَ، ثم مَكَثَ الآخَرُ بَعدَه سَنةً، ثم تُوُفِّيَ، قال طَلحةُ: فرأيتُ فيما يَرى النَّائِمُ كأنِّي عِندَ بابِ الجَنَّةِ إذا أنا بهما وقد خرَجَ خارِجٌ مِنَ الجَنَّةِ، فأذِنَ للذي تُوُفِّيَ الآخِرَ منهما، ثم خَرَجَ فأذِنَ للذي استُشهِدَ، ثم رَجَعا إليَّ فقالا لي: ارجِعْ؛ فإنَّه لم يَأْنِ لكَ بَعدُ. فأصبَحَ طَلحةُ يُحدِّثُ به الناسَ، فعَجِبوا لذلك، فبلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: مِن أيِّ ذلك تَعجَبونَ؟ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، هذا كان أشَدَّ اجتِهادًا، ثم استُشهِدَ في سَبيلِ اللهِ، ودخَلَ هذا الجَنَّةَ قَبلَه. فقال: أليس قد مَكَثَ هذا بَعدَه سَنةً؟ قالوا: بلى. وأدرَكَ رَمَضانَ فصامَه؟ قالوا: بلى. وصلَّى كذا وكذا سَجدةً في السَّنةِ؟ قالوا: بلى. قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فلَمَا بَينَهما أبعَدُ ما بَينَ السَّماءِ والأرضِ. أخرجه الإمام أحمد وسنده صحيح ..
فأين المشمرون المسابقون؟ أين الصالحون المتقون؟
بل أين المذنبون، والعاصون؟ و أين المفرطون المقصرون؟
هذا زمان التوبة والاستغفار، وأوان الرجعة والانكسار ..
فأين نحن من رمضان وماهي حقيقتنا مع رمضان فشتَّانَ شتان بين حالنا في رمضان وبين حال السلف الصالح رضوان الله عليهم..
كانوا إذا بلغوا رمضان كانوا يعلمون أن الصيام ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب ، وفعل ما حرم الله من المعاصي والمحرمات..
قال بعض السلف : أهون الصيام ترك الشراب و الطعام .
وكان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يوصون الصائمين فيه بالمحافظة على الطاعات، والابتعاد عن السيئات ..
فهذا سيدنا جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنه قال: “إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وَبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً”..
هذا حال السلف الصالح خير القرون رضوان الله عليهم..
أما نحن فالبعض منا يجتهد بأنواع الطعام والشراب ، ونجتهد بالنوم فيه ، إذا ذهبت إلى الأسواق والمتاجر والجمعيات، فستجد بعض الناس يجمعون أصنافًا من الطعام، وألوانًا من الشراب، بكميات كبيرة، وكأنهم مقبلون على حرب أو مجاعة، فأين هم مما يحدث لإهل فلسطين المشردين في هذه الأيام؟..
الصيام لا يعني مجرد الامتِناعِ عنِ الطعام والشّرابِ ، والتمادي في الكَذِب، والمَيل عنِ الحَقِّ، والعَمَل بالباطِلِ والزور ..
يقول النبي ﷺ : ” مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ.” أخرجه الإمام البخاري .. وليس مَعنى ذلك أنْ يُؤمَرَ الصَّائمُ الَّذي تَلبَّسَ بمَعصيةٍ أنْ يَترُكَ صِيامَه ويُفطِرَ، وإنَّما مَعناه التَّحذيرُ مِن قَولِ الزُّورِ أو العَمَلِ به، وتَعظيمُ التَّلبُّسِ بهذه المَعاصي حالَ الصَّومِ، حيثُ إنَّه يكونُ سَببًا في نُقصانِ أَجرِ عِبادَةٍ مِن أفضَلِ العِباداتِ، يَترُكُ الرَّجلُ طَعامَه وشَرابَه وشَهوتَه؛ ويَنقُصُ ثَوابَه قَولُ الزُّورِ والعَملُ به! وفي سُنَنِ ابنِ ماجه: «رُبَّ صائمٍ ليس له مِن صِيامِه إلَّا الجُوعُ» (الدرر السنية). .
والصوم محاط بسياج من الآداب، فغض البصر، وخفض الصوت، ولين الكلام، والسلوك المتزن الرفيع، والصبر، والتصبر، والتجمل، والتغافل، والتغافر، وقلة الكلام، والطعام، والمنام، وقلة الاختلاط، كلها وسواها من آداب الصوم .
و حفظ لسانه من المنزلقات(الغيبة والنميمة والكذب واللمز والاستهزاء والذم والقدح والسب والشتم واللعن وفضول الكلام).
وغير ذلك من آفات اللسان .
اِحفَظ لِسانَكَ أَيُّها الإِنسانُ
لا يَلدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعبانُ
كَم في المَقابِرِ مِن قَتيلِ لِسانِهِ
كانَت تَهابُ لِقاءَهُ الأَقرانُ .(ديوان الإمام الشافعي)..
فيا عباد الله علينا أن نبدأ هذا الشهر الكريم المبارك بتوبة صادقة خالصة نصوح نقلع فيها عن كل معصية، ونندم على ما مضى من أعمارنا في معصية الله، ونعاهد ربنا ألا نعود لمعصيته أبدا.
قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور:31].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم:8].
والله يحب التائبين.
قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة:222].
فيا من تهاونت في الصلاة كثيرا؛ عُدْ إلى الله فقد أقبل رمضان.
يا من أذنبت كثيرا؛ عد إلى الله فقد أقبل رمضان.
يا من عصيت كثيرا؛ عد إلى الله فقد أقبل رمضان
لابد من صلة الارحام وقراءة القرآن والصدقة في رمضان ..
فرمضان فرصةٌ مباركة لتصفية النفوس وتنقية القلوب واجتماع الكلمة على طاعة الله جلّ وعلا بأن يقبِل المسلمون جميعهم مطيعين لله مقبلين على عبادته وطاعته مبتعدين عن كل ما يسخطه ويأباه سبحانه .
هلموا يا عباد الله لنتوب؛ فربنا العفو الغفور يقول عن نفسه العلية: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}..
كنا ندعو كثيرا اللهم بلغنا رمضان وعندما تحقق هذه النعمة ، ففقد حبانا اللهُ جلَ في علاه بعطاءٍ جزيل حُرم منه خلق كثير بموتهم، أو بغيهم وكفرهم وجحودهم..
فيا سعادة من مد الله له في الأجل، ومتعه بنعيم الصحة، ليغنم بمغفرة الله ورضوانه، والعتق من نيرانه..
يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رَجبٍ … حتى عَصَى ربَّهُ في شـهر شعبانِ
لقـد أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَـا … فلا تُصَيَّرْهُ أيْضـاً شَهْرَ عِصْيانِ
واتْلُ الْقُرآنَ وَسَبِّـحْ فيه مجتَهِـداً … فَـإنه شهرُ تسبيـحٍ وقُـرْآنِ
كمْ كنتَ تعرِف مِمِّنْ صَام في سَلَفٍ … مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْـوَانِ
أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتَبْقَاكَ بَعْدهمـُ … حَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي