خطبة بعنوان ( التحذير من خطورة التكفير ) لفضيلة الشيخ ياسر عبدالبديع
14 يناير، 2025
خطب منبرية

خطبة الجمعة بتاريخ 17 يناير 2025م – 17 رجب 1446 هجرية
بعنوان التحذير من خطورة التكفير
لفضيلة الشيخ : ياسر عبدالبديع
المقدمة
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السموات وملء الأرض وملء مابينهما وملء ماشئت يارب من شئ بعد أهل الثناء والمجد أحق ماقال العبد وكلنا لك عبد اللهم لامعطى لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
سبحانك اللهم خير معلم علمت بالقلم القرون الأولى أخرجت هذا العقل من ظلماته وهديته النور المبين سبيلا وأرسلت بالتوراة موسى مرشدا وابن البتول فعلم الإنجيلا وفجرت ينبوع البيان محمدا فسقى الحديث وناول التنزيلا
ونشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا ومصطفانا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا أوصيكم ونفسى بتقوى الله قال الله تعالى يأيها الذين ءامنو اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما أحدثكم اليوم عن موضوع تحت عنوان
التحذير من خطورة التكفير
أما بعد :
فإن التدين الصحيح بعيد عن التطرف -الذي هو الجنوح إلى طرف الغلو والإفراط، أو إلى طرف التقصير والتفريط- فإن دين الإسلام هو دين العدل والوسط.
وقد أثنى الله -سبحانه- على هذه الأمة بأنها أمة وسط، قال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا {البقرة:143}.
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: فلعمر الله إنهما لطرفا إفراط وتفريط، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان.
نهى الاسلام عن التطرف
وقد نهى الله -سبحانه- عن الأمرين في غير موضع؛ كقوله: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء 29]، وقوله: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا} [الإسراء 26]، وقوله: {والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا} [الفرقان 67]، وقوله: {وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف 31].
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النّمَط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرِّطين، ولم يلحقوا بغُلُوّ المعتدين، وقد جعل الله -سبحانه- هذه الأمة وسَطًا، وهي الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين.
والعدلُ هو الوسط بين طرفي الجَوْرِ والتفريط، والآفاتُ إنما تتطرّق إلى الأطراف، والأوساط مَحْميَّة بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها.
فدين الله في جميع الأبواب في الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وسط بين الجفاء والغلو، وبين التفريط والإفراط.
والتطرف المذموم في ميزان الشرع يشمل التقصير والتفريط، كما يشمل الغلو والزيادة. خلافا لما هو شائع من قصر وحصر التطرف المذموم على الغلو فقط!
ومن المهم التنبه إلى أن المعيار في وصف أمر بأنه وسط وعدل، أو أنه غلو أو جفاء مذموم، هو معيار السنة النبوية والشرع الحنيف.
وليس المعيار هو الأهواء أو الأعراف، أو العادة التي تعودها الناس ونشؤوا عليها، فكثير من هذه الأمور تخالف الشرع وتجانب السنة، ويحكم بها على جملة من أحكام الشريعة الغراء التي تخالفها بأنها تطرف، كالتزام المرأة المسلمة بالحجاب، واجتناب الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه الريبة والفساد، وإنكار الفواحش بدرجاتها وأنواعها، ومجانبة المكاسب المحرمة كالربا والقمار.
ولذلك فإن التدين مع البعد عن الغلو إنما يكون بالتزام السنة النبوية، والانضباط بالأحكام الشرعية، ومراعاة آدابها ومقاصدها.
ومما يعين على احتناب الغلو:
-استشعار خطر الغلو، وذم الشرع للغلو والغالين، قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ {النساء:171}، وقال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا {هود:112}.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هلك المتنطعون» قالها ثلاثا.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: أي: المتعمقون الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. اهـ.
وفي سنن النسائي من حديث ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
– سؤال الله -سبحانه- الهداية إلى الحق، والوقاية من الغواية.
– طلب العلم الشرعي من منابعه الصافية، ومصادره الموثوقة.
– الاقتداء بالعلماء الراسخين المعروفين بعلمهم واعتدالهم، وتقواهم.
-الحرص على الصحبة الصالحة العاقلة، البعيدة عن التفريط والغلو.
-البعد عن الاستماع أو القراءة إلى دعاة التطرف -ولو من باب الفضول والاطلاع-.
وهذا ما حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدِّين )). أخرجه أحمد وابن ماجه.
وهذا حال كل متطرف منذ عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، مصداقا لقوله الشريف ((إن الدِّين يسرٌ ، ولن يشادَّ الدَّين أحدٌ إلا غلبه ، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة وشيءٍ من الدُّلجة )) رواه البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( هلك المتنطِّعون )) قالها: ثلاثًا. أخرجه مسلم. والمتنطعون: المغالون والمجاوزون لحد الاعتدال.
فهذا النبيُّ الأكرم صلى الله عليه وسلم يؤكد سماحة الإسلام ويسره وأنَّ المتشددين والمتطرفين لن يستطيعوا أن يقفوا أمام يسره واعتداله وسماحته، وعلى المرء أن يروِّح عن نفسه بين الفينة والأخرى بما لا معصية فيه، وألا يملأ وقته كله بالعبادة حتى لا تسأم النفس وتمل، يقول سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا. أخرجه البخاري.
وهذا درس للوعاظ والمفتين وأهل التربية والإرشاد فيما يجب عليهم حيث ينبغي لهم أن يختاروا للناس الأيسر والأسهل والأنسب من الأقوال، وأن يعملوا على التبشير والترغيب لا على العنف والشدة والإرهاب.
فالمسلم ينبغي أن يكون أبعد ما يكون عن الإرهاب والشدة؛ لأن الأصل في الدين البشارة واليسر والتيسير. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ما خيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن فيه إثم. متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم.
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها في وصف رسول الله إنه كان أكرم الناس وألين الناس ،ضحّاكًا، بسّامًا. أخرجه ابن سعد وابن عساكر. فاللين من صفات هذا النبي الكريم الذي قال الله عز وجل فيه « وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ» [القلم: 4]
يقول سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أخبروا كأنَّهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي وقد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؛ قال أحدهم: أمَّا أنا فإنِّي أصلِّي الليل أبدًا؛ وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر؛ وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (( أنتم الذين قلتم كذا وكذا؛ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوَّج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني )). متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم.
نداء الاسلام الى الوسطية
والوسطية لزوم الوسط.
والاعتدال هو الاستقامة على الشيء والتوازن في الأمر وهو مأخوذ من اعتدال المتاع على الدابة، وتعادل العدلين المحمولين في جانبيها. قال الله وكذالك جعلناكم أمة وسطا
والتطرف في الدين مذموم من كلا الجانبين، فالإفراط مذموم والتفريط مذموم، فقد حرم الله الغلو والتنطع في الدين، قال الله تعالى: لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ [النساء:171]، وفي الحديث: إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين. رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني.
وفي الحديث: هلك المتنطعون قالها ثلاثاً. رواه مسلم.
وقد حرم الله التساهل في الدين واقتراف المحرمات، وكره إلى المؤمنين الكفر والفسوق والعصيان، وتوعد الفساق بالنار، فقال: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة:20].
وأما الوسطية فهي إحدى خصائص هذا الدين الإسلامي، فهو وسط بين الإفراط والتفريط وبين التشدد في العبادات والمروق من الدين بدعوى الترخصات، وسط في المعاملات، وسط في الإنفاق بين الإسراف والبخل، وسط في النكاح بين من أباحوا نكاح المحارم ومن منعوا نكاح القرائب كبنات العم وبنات الخال،
من أسباب التكفير ومظاهره
أولا: الجهل:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (ولا ريب أن الجهل أصل كل فساد، وكل ضرر يلحق العبد في دنياه وأخراه فهو نتيجة الجهل).
إن القاسم المشترك بين كثير ممن يسارعون إلى تكفير المسلمين هو الجهل بشريعة الله تعالى، يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل).
ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج – وهم أول من خرج على الأمة بهذه البدعة المنكرة – بقوله “يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم”والمراد: أن تلاوتهم باللسان دون استقرار الإيمان والفهم في القلب.
ويقول عنهم الإمام القرطبي رحمه الله: (ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله بصحة إيمانه وبأنه من أهل الجنة). وهو سيدنا على رضى الله عنه وكرم الله وجهه
ويقول ابن تيمية رحمه الله: (من ادعى دعوى وأطلق فيها عنان الجهل مخالفاً فيها لجميع أهل العلم، ثم مع مخالفتهم يريد أن يكفر ويضلل من لم يوافقه، فهذا من أعظم ما يفعله كل جهول مغياق – المغياق هو مختلط الرأي فاسده -).
وإذا أردت مثالا عمليا على جهل هؤلاء فارجع إلى قصة ذي الخويصرة ذلك الأعرابي الجاهل الذي جاء يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: “ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟!”متفق عليه. ولو جلس هؤلاء إلى أهل العلم وأخذوا عنهم لنجوا من هذه الآفة العظيمة ومن غيرها من الآفات: “إنما شفاء العي السؤال”رواه أبو داود.
ثانيا: اتباع الهوى:
إن اتباع الهوى هو آفة من أعظم الآفات؛ فالهوى يستعبد الإنسان ويأسره ويجعله في ضلال، قال الله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50). وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23).
لقد دأبت الفرق المنحرفة عن هدي الكتاب والسنة على تكفير مخالفيها، حتى أصبح سمتاً للفرق المبتدعة المختلفة، يقول ابن تيمية: (ومن البدع المنكرة تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم … وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضاً … وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} (الأنعام: 159) ).
إن كثيرا من هؤلاء الذين يسارعون إلى تكفير المسلمين بغير بينات هم في الحقيقة فعلوا ذلك اتباعا لأهوائهم ونفوسهم المريضة، ولم يكن ذلك منهم لعلم اكتسبوه ليس عند غيرهم، بل تبعا لهواهم، والهوى يعمي ويصم. وانظر إلى أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإن هذا المجرم طعن عثمان تسع طعنات، وقال: ثلاث لله، وست لما في نفسي. ولو صدق لقال: تسع لما في نفسي.
وإذا كان صلاح بني آدم بالإيمان والعمل الصالح، فإنه لا يخرجهم عن ذلك إلا الجهل واتباع الهوى.
ثالثا: تصدر من ليس أهلا للإفتاء:
إن من أهم أسباب انتشار هذه الظاهرة التضييق على العلماء الراسخين ومنع الناس من الوصول إليهم، فيضطرون إلى التماس العلم عند الأصاغر الذين يتجرأون على ما يقف عنده العلماء، وقد قال رسول الله صلى الله: “إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر”أخرجه الطبراني.
وقد استشعر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الخطر فحذر من هؤلاء الأغرار: “ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسقٍ بَيِّن فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله”.
يقول ابن قتيبة: “لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث، لأن الشيخ قد زالت عنه حِدَّة الشباب ومتعته وعجلته، واستصحب التجربة في أموره، فلا تدخل عليه في علمه الشُّبه، ولا يستميله الهوى، ولا يستزله الشيطان، والحَدَثُ قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ، فإذا دخلت عليه، وأفتى هلك وأهلك”.
ومن أهم العلاجات لهذه الآفة ألا يحال بين العلماء وبين الناس حتى يبينوا للناس دينهم ويزيلوا شبهات هؤلاء المنحرفين عن الجادة.
رابعا: انتقاص الدين والتدين:
إن الاستهزاء بالدين ومهاجمته في وسائل الإعلام، وانتقاص المتدين بسبب هديه وسمته، بل والجرأة على ثوابت الدين دون خوف من عقوبة رادعة، قد تدفع بعض الغيورين – مع قلة العلم – إلى العزلة والشعور بأنه لا يمكن أن يقوم بهذا أو يسمح به مسلم، فيقع في تكفير المجتمع.
ومن أهم العلاجات لذلك: حماية جناب الدين من المعتدين عليه، والأخذ على أيديهم، وتطبيق القانون عليهم بحزم، وعدم السماح بالتطاول على الدين أو مظاهر التدين في المجتمع؛ حتى لا يتخذ ذلك ذريعة لوصم المجتمعات بالكفر.
خامسا: الاغترار ببعض المعروفين بالصلاح والاستقامة ممن وقعوا في التكفير:
مما يوقع بعض الشباب في تكفير الأفراد والمجتمعات اغترارهم بصدور ذلك ممن يبدو عليه سيما الصلاح والاستقامة، فيقلدونهم في ذلك ثقة بهم، ولعل هؤلاء لم ينتبهوا إلى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الخوارج حين قال: “يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية””متفق عليه”. فهذا الصلاح الظاهر صاحبه انحراف في الفهم وصل بهؤلاء الخوارج إلى حد العمى، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا).
إنهم لضلالهم عمدوا إلى الآيات التي نزلت في الكافرين فجعلوها على المؤمنين؛ لهذا قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم : (هم شرار الخلق والخليقة)رواه الإمام أحمد وأبوداود وابن ماجه.
ومن أهم أسباب العلاج لهذا السبب أن يتربى الشباب على أيدي أهل العلم الراسخين، وأن يستقر في نفوسهم أن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يوزنون بالكتاب والسنة،
علاج الفكر التكفيرى
ومن تلك المفاهيم التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بيانها وتوضيح معالمها “مفهوم التدين” الذي كان ولا يزال عرضة للتصور المغلوط، والفهم القاصر، مما يؤدي إلى ممارسات خاطئة ولو كانت مع حسن النية، والرغبة في الخير، ويزيد البلاء أن بعض الناس قد ينسب أخطاء التدين إلى الدين نفسه، فيزداد الالتباس، مما يجعلنا بحاجة إلى ترشيد التدين في حياتنا من خلال التوجيهات النبوية الكريمة.
أولا: بيان طبيعة الدين
ركز النبي صلى الله عليه وسلم على توضيح طبيعة الدين ليتحدد بناء عليه طبيعة العلاقة بين الإنسان وبين هذا الدين، وهو ما نسميه “التدين”، فالتدين هو تمثل الدين، من خلال فهمه، وتطبيقه، وإعماله في الحياة العامة والخاصة، ففهم الدين يعتبر أهم ركائز التدين، ولا يمكن تطبيقه إلا بعد فهم طبيعته ومقاصده وخصائصه.
ومن ذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ” رواه البخاري.
وحديث ابن الأدرع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة» رواه الإمام أحمد في المسند.
وغيرها من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى وهي كثيرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر بهذا الأصل بين كل فترة وأخرى، لا سيما إذا لمس من بعض الصحابة جنوحا إلى الغلو أوالتشدد، وإلزام النفس بما لم يلزمها به الشرع، فيذكرهم بأن الدين بطبيعته لا يقبل مثل تلك التشددات التي تجعل المتدين عرضة للانقطاع والانقلاب على الدين بالكلية، وتلك قضية في غاية الأهمية في صدد ترشيد مفهوم التدين، وهي كالأساس الذي ننطلق منه إلى غيره.
ثانيا: التحذير من التدين المشوه
يمكننا القول بأن من صور الانحراف في مفهوم التدين التي عالجها النبي صلى الله عليه وسلم، هو “التدين المشوه” إن صح التعبير، وله صور كثيرة، فالتدين المجتزأ الذي يحصل من البعض، بحيث يقتصر في تدينه على الشعائر الظاهرة، ثم لا يرى للتدين أثرا في معاملته مع الخلق، وهذا للأسف الشديد من أبرز صور الانحراف التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم من وقت مبكر، وذلك من خلال الحديث المشهور بحديث “المفلس”، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم.
ولا غرابة أن يكون مآل هذا التدين إلى الإفلاس والخسارة؛ لأنه انفصام حقيقي في مفهوم التدين، إذ كيف يستقيم حال من يصلي، ثم إذا فرغ من صلاته لم يسلم أحد من لسانه ويده بالبغي والظلم والعدوان، والفاجعة الكبرى أن يبدو لهم يوم القيامة خلاف ما كانوا يحتسبون، فشعائرهم التي جاءوا بها كالجبال تتلاشى أمام تلك المظالم التي كانوا يظنون أن الدين لا علاقة له بها، وهكذا قل مثل ذلك في حق من يصلي ويصوم ويتصدق ولكنه غير متدين في الاقتصاد، فيرابي، ويحتكر، ويغش، ويخدع، ويستثمر في الحرام، ظانا أن تلك مساحة متروكة لشطارته ودهائه، وكان مقتضى التدين الصحيح أن تنضبط معاملاته المالية وفق تعاليم الإسلام؛ إذ لا فرق بين الأمر بالصلاة، وبين النهي عن الربا على سبيل المثال، فكلها مصدرها من الله، وكلها سيسأل الإنسان عنها باعتبارها من الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وهكذا المتدينة من النساء بالصلاة والصيام والحج والعمرة، ثم لا تلتزم بما أمرها الله به من غض البصر، وحفظ الفرج، وستر البدن، وغيرها من المحرمات التي لا تصدر ممن عرفت الدين حق المعرفة، ومتدين آخر يصلي ويتصدق ثم لا يجد حرجا من ممارسة بعض الفواحش وارتكاب المحارم، والخطورة في هذا الأمر أن هذا النوع من التدين المشوه يسري بين الناس، ومع طول الأمد قست القلوب، وتطبعت مع تلك المنكرات، فلم يعد الواحد يشعر بأي تناقض بين صلاته وشعائره وبين واقع حياته الذي لا يحكمه الدين وإنما الهوى والشهوات.
ثالثا: الاستقامة أحد ركني التدين
تمثل الاستقامة أحد ركني التدين الحقيقي، وذلك بعد تحقيق الركن الأول الذي هو الإيمان الجازم، ولذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم على ضرورة الاقتران بينهما حتى يكون التدين مستوفيا لحقيقته، وذلك في مقالته الجامعة للرجل الذي جاء يسأله خلاصة يستقيم عليها دينه، بحيث لا يحتاج إلى سؤال غيره، كما في حديث سفيان بن عبد الله الثقفي، قال: قلت: يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: «قل: آمنت بالله، ثم استقم» رواه ابن حبان في صحيحه.
قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم: ” والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها “.
وبمقارنة ذلك في واقع التدين عند بعض المسلمين نجد أنهم يفتقدون لركن الاستقامة، مما يجعل تدينهم ناقصا بحسب ما ينقص من استقامتهم، حتى يصل البعض إلى أن يكون تدينهم ادعاء لا حقيقة له، فهو متدين بلسانه، ولكن لم يستقم قلبه ولا جوارحه على مقتضى الدين، وهذا ما نبه إليه الحديث السابق، ومن خلاله يمكننا معالجة هذا الانحراف من خلال بيان أن الاستقامة ركن لا يصل الإنسان إلى الله إلا به.
رابعا: العلم شرط للتدين
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يبني تدين أصحابه على أساس العلم بالله وبدينه وشرعه، ولذلك كان يقول لهم: “أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له” رواه البخاري ومسلم، حين لمس منهم الميل للرهبنة، وكأنه يرشدهم إلى العلم بالشرع الذي يفقههم بطرق الوصول إلى الله، ويحذرهم من اختراعات عقولهم لتدين ما أنزل الله به من سلطان، بحيث يحرمون على أنفسهم ما أحل الله، فشرط التدين ألا يعبد الله إلا بما شرع، وطريق ذلك العلم، وكأنه يقول لهم: أنا أخشاكم لله لأني أعلم به وبشرعه الموصل إليه، وبهذا يتبين أنه لا تدين إلا بالعلم، والعلم قبل القول والعمل كما أثر من تبويبات البخاري الشهيرة في صحيحه.
وهكذا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم البيان الشافي كل الفرائض والأحكام، ونهى الأمة أن تتقرب إلى الله إلا بما علمهم إياه، ففي الصلاة “صلوا كما رأيتموني أصلي” رواه البخاري عن مالك بن الحويرث، فالتدين لله بالصلاة متوقف على العلم بأحكامها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحج “خذوا عني مناسككم” رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله، وهكذا في سائر الأبواب لا يعبد الله إلا بما شرع، وكله مشروط بالاتباع، والعلم هو الموصل لذلك كله.
ولذلك لما تباعد الناس عن العهد النبوي والقرون المفضلة، تسربت إلى الناس طرائق من التدين المبني على الجهل، فشاعت البدع، وظهرت المقالات الباطلة، وتبنت كل طائفة أصولاً مغلوطة، وقعدت لها قواعد بغير هدىً من الله، فدانوا بالجهل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا يزال التدين الصحيح في نقص بقدر ما نقص من العلم وزاد من الجهل، ولهذا فالحرب القائمة اليوم تعتمد في إضعاف التدين على تجفيف منابع العلم الديني والشرعي، بحيث تتعرض الأمة لتجهيل ممنهج رغبة في انحسار التدين في الأمة، ولا يزال الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم في نشر دينه في الآفاق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والخلاصة أن التدين بمفهومه الصحيح هو ما كان نابعاً من طبيعة الدين القائمة على الاعتدال واليسر والرحمة والعدل، وكان مبنيا على العلم والفهم، متكاملاً غير مجتزأ، يجمع بين تدين الظاهر والباطن، وأداء حق االله مع حسن التعامل مع خلقه، ويجمع بين الإيمان والاستقامة، وأي تدين أخل بهذه الثنائيات المتلازمة فقد أخل بالتدين الذي يرضاه الله تعالى من عباده.
الدعاء
اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا وحببنا فى بعضنا وانزع الشحناء والبغضاء من قلوبنا وانشر الأمن والأمان فى بلادنا وسائر بلاد المسلمين وارفع البلاء والغلاء عنا اللهم انصر إخواننا المستضعفين فى بلاد المسلمين اللهم اغفر لوالدينا كما ربيانا صغارا اللهم اغفر لهما وارحمهما يارب العالمين اللهم اغفر وارحم مشايخنا وعلمائنا وإلى كل من كان له فضل علينا يارب العالمين
وأقم الصلاة