السياسة بين الأيديولوجيا والصراع على السلطة: قراءة فلسفية وتحليل معمق

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )

السياسة بين الأيديولوجيا والصراع على السلطة: قراءة فلسفية وتحليل معمق

منذ فجر التاريخ، كان السعي إلى السلطة هدفًا مشتركًا بين الأفراد والجماعات، بغض النظر عن الأيديولوجيا التي يحملونها أو المبررات التي يسوقونها.

السياسة، في جوهرها، هي التنافس على إدارة المجتمعات وتنظيمها وفق رؤى وأهداف محددة. لكن عندما يصبح هذا السعي محط اتهام وانتقاد، فإن ذلك يعكس نزعة للصراع الخطابي والأيديولوجي أكثر مما يعكس تحليلًا موضوعيًا للواقع السياسي.

في العالم العربي، وبخاصة في العقود الأخيرة، برزت موجة من الاتهامات المتبادلة بين الجماعات الإسلامية والعلمانية حول نوايا كل منهما تجاه السلطة. يُتهم الإسلاميون بأنهم يسعون إلى السلطة تحت غطاء الدين، بينما يقدم العلمانيون أنفسهم كحراس للحرية والعقلانية، وكأنهم بمعزل عن طموح السيطرة. هذا التناقض يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة العمل السياسي ومدى حياد الخطابات التي تُرفع لتحقيق غاياته.

الدين والسياسة: علاقة أزلية متجددة

لطالما كان الدين عنصرًا رئيسيًا في تشكيل المجتمعات والسياسات. في العصور القديمة، كان الحكام يقدمون أنفسهم كوسطاء بين السماء والأرض، مما أضفى شرعية دينية على سلطتهم.

في الحضارة الإسلامية، لم يكن هناك فصل حقيقي بين الدين والسياسة؛ فقد اعتُبر الإسلام نظامًا شاملًا للحياة، يجمع بين الروحي والدنيوي، وبين الفردي والجماعي.

لكن مع ظهور الحداثة وتطور مفاهيم الدولة القومية، ظهرت دعوات لفصل الدين عن السياسة، وخاصة في السياقات الغربية التي عانت من هيمنة الكنيسة واضطهادها للمخالفين.

هذه التجربة الأوروبية ألهمت تيارات علمانية عربية اعتبرت الدين عائقًا أمام التقدم، فدعت إلى فصله عن الدولة، لكن دون النظر بعمق إلى السياقات المختلفة التي نشأ فيها النظام الإسلامي وتطوره.

العلاقة بين الدين والسياسة في العالم الإسلامي ليست علاقة طارئة أو قسرية؛ بل هي نتاج تاريخ طويل من التداخل بين النصوص الدينية، والاجتهادات الفقهية، والتجارب السياسية. لذلك، فإن اتهام الإسلاميين باستخدام الدين لتحقيق مكاسب سياسية يُغفل حقيقة أن الدين في العالم الإسلامي ليس مجرد شعائر، بل هو رؤية متكاملة تشمل الأخلاق والسياسة والاجتماع.

العلمانية والطموح السياسي: نقد الموضوعية المزعومة

على الجانب الآخر، تقدم العلمانية نفسها كمنهج عقلاني محايد، يسعى إلى فصل الدين عن الدولة لضمان الحرية والعدالة للجميع. لكن العلمانية، في كثير من الأحيان، تتحول إلى أيديولوجيا تسعى هي الأخرى إلى السيطرة على المجال العام وفرض رؤيتها الخاصة على المجتمعات.

في السياق العربي، استخدمت الأنظمة العلمانية شعارات مثل التقدم والحداثة لتبرير سياسات القمع والإقصاء، خاصة ضد الحركات الإسلامية التي كانت تشكل تهديدًا لنفوذها. في بعض الحالات، لجأت تلك الأنظمة إلى تغييب الدين من الفضاء العام بالقوة، مما أدى إلى ردود فعل عنيفة من المجتمعات التي اعتبرت هذه السياسات اعتداءً على هويتها.

العلمانيون الذين ينتقدون الإسلاميين لاستغلالهم الدين في السياسة يتجاهلون أنهم أنفسهم يستغلون قيمًا ومفاهيم علمانية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان كأدوات لتحقيق الهيمنة السياسية. هذه الازدواجية تُظهر أن المشكلة ليست في الأيديولوجيا بحد ذاتها، بل في الطريقة التي تُستخدم بها لتبرير الصراع على السلطة.

الفلسفة السياسية للصراع على السلطة

من منظور فلسفي، الصراع على السلطة هو جزء أساسي من الطبيعة البشرية. الفيلسوف الإيطالي نيكولو ميكيافيلي، في كتابه “الأمير”، يرى أن السياسة لا تهدف إلى تحقيق الفضيلة بقدر ما تهدف إلى ضمان الاستقرار والبقاء. أما الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه، فيرى أن إرادة القوة هي المحرك الأساسي للوجود البشري، بما في ذلك السياسة.

هذا المفهوم ينطبق على جميع التيارات السياسية.

الإسلاميون يسعون إلى السلطة باعتبارها وسيلة لتحقيق مشروعهم القائم على الشريعة الإسلامية.

العلمانيون يسعون إلى السلطة لتحقيق رؤيتهم القائمة على فصل الدين عن الدولة وإعادة تشكيل المجتمعات وفق مبادئ الحداثة. كل طرف يرى في السلطة أداة لتجسيد قيمه وتحقيق أهدافه، ولا يمكن لأي منهما أن يدّعي الحياد أو النزاهة المطلقة.

لكن الفلسفة السياسية تتجاوز مجرد تحليل الصراع إلى البحث عن توازن يُمكّن جميع الأطراف من المشاركة في صنع القرار.

الفيلسوف الأمريكي جون راولز، في كتابه “نظرية العدالة”، يطرح فكرة أن المجتمع العادل هو الذي يضمن التعددية واحترام التنوع الفكري والثقافي، مع وضع أسس عادلة لتوزيع السلطة والثروة.

بين الشعارات والممارسات: ازدواجية الخطاب

المفارقة الكبرى في النقاش حول السعي إلى السلطة تكمن في التناقض بين الشعارات والممارسات. الإسلاميون يتحدثون عن تطبيق الشريعة وتحقيق العدالة، لكن بعض تجاربهم السياسية أظهرت نزعة إلى الإقصاء وتغليب المصالح الحزبية على المصالح العامة.

في المقابل، العلمانيون يتحدثون عن الحرية والديمقراطية، لكن كثيرًا ما تحولت شعاراتهم إلى أدوات لتبرير الاستبداد والقمع.

هذه الازدواجية تكشف عن حقيقة أن السياسة ليست ساحة نقية للأفكار المثالية، بل هي مجال معقد تتداخل فيه المصالح والأيديولوجيات والظروف. بدلًا من التركيز على اتهام الطرف الآخر، يجب تحليل السياقات التي تؤدي إلى هذه الممارسات والبحث عن حلول تعالج جذور المشكلة.

رؤية مستقبلية: نحو عقد اجتماعي جديد

إذا أردنا تجاوز هذا الصراع، يجب أن نتبنى رؤية شاملة تقوم على احترام التنوع وتقبل الاختلاف. لا يمكن لأي تيار أن يحتكر الحقيقة أو يدّعي امتلاك الحلول النهائية. المطلوب هو بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على مبادئ العدالة والتعددية والتشاركية.

هذا العقد يتطلب من الإسلاميين إعادة النظر في رؤيتهم للعلاقة بين الدين والدولة، بحيث يتمكنون من تقديم نموذج يوازن بين الشريعة ومتطلبات الحداثة. كما يتطلب من العلمانيين احترام الخصوصيات الثقافية والدينية للمجتمعات العربية، والكف عن فرض نماذج مستوردة لا تتناسب مع الواقع المحلي.

السياسة ليست معركة صفرية؛ بل هي سعي دائم لتحقيق التوازن بين المصالح المختلفة. لا يمكن للإسلاميين أو العلمانيين أن يحققوا أهدافهم من خلال الإقصاء أو التشكيك. الطريق الوحيد إلى حكم رشيد ومستدام هو الحوار والتفاهم والعمل المشترك لبناء مستقبل يُلبي تطلعات الجميع.

السعي إلى السلطة ليس أمرًا مذمومًا في ذاته، بل هو ضرورة لتمكين الجماعات من تحقيق رؤاها وأهدافها. المشكلة تكمن في ازدواجية الخطاب واستخدام الأيديولوجيا كوسيلة للإقصاء بدلاً من الحوار. إذا أردنا بناء مجتمعات عادلة ومستقرة، يجب أن نتحرر من منطق الاتهام المتبادل ونركز على بناء أسس سياسية تضمن المشاركة والعدالة للجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *