وصية الإمام على لمالك بن الأشتر واليه على مصر الجزء الثالث
13 يناير، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

بقلم الأستاذة : سيدة حسن
نستكمل فى هذا المقال بقية وصية الإمام على رضى الله تعالى عنه وأرضاه لواليه مالك بن الأشتر والتي إحتوت على درر وقيم ومبادئ إنسانية وسياسية سامية لو طبقت فى زماننا هذا لإنصلح بها أحوال البلاد والعباد:
ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك. ولا يُضعف عقداً اعتقده لك، ولا يَعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ. ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره. واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتت عليه كثيرها، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. اعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. فامنع من الإحتكار فإن رسول الله ’ منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقب في غير إسراف.
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً. واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل. وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم.
واجعل لذوي الحاجات منك قسماًتفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله صل الله عليه وآله وصحبه وسلم يقول في غير موطن: “لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع”. ثم احتمل الخرق منهم والعيّ، ونحِّ عنك الضيق والأنَفَ يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته. وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار.
ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيى عنه كتابك. ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك. وأمض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية. وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك، إقامة فرائضه التي هي له خاصة. فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووفِّ ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص، بالغاً من بدنك ما بلغ. وإذا أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله ’ حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما.
وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل. وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطية، أو فعل كريم تسديه ؟ أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة.
ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال. ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس، في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة.
وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقاً برعيتك، وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق. ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك. ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن.
وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحُطْ عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر ! فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره. فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه.
ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.
إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها ! والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن. وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم. وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.
وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ. وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه. وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك. وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم.
املك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك وغرب لسانك. واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الإختيار. ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك. والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا ’، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدته مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها.
وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه، من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، وإنا إليه راغبون. والسلام على رسول الله وآله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيرا.