العالمُ الأَزْرَقُ وقَلَمِيَ المَكْلُوم

بقلم الشيخ: سيد الشاعر الشافعي الأزهري 

ما جَرَّدتُ قلمي يوماً ، إلا وعادَ يَقطُرُ دمعاً !
دَبَّ الخِصام بيني وبينه ـ قلمي ـ سنين عدداً ، ما عاد يُطاوعني ، وما عُدتُ أقدر على حمله ، وهو الذي ما فارقني يوماً مذ كُنتُ طفلاً ، فما كان يبيت في غمده إلا على صدري.

ما تَجَمَّعَتْ سحائب الحزن في عيني يوماً ، إلا وقام مُنتَفِضَاً مُتَجَرِّداً لم يَدَعْ أحداً من العالمين يراني باكياً دامعاً أبداً ، وإذا به يَقْطُرُ دمعه على أوراقي نيابةً عني ؛ لله دَرُّه .

أما الآن فبيني وبينه فُرْقَةٌ عجيبة منذ زمن بعيد ، كلما جَرَّدتُه في هذه الأحداث التي مَرَّت عليَّ وكان من الواجب عليه أن يقوم ويَذُبَّ عني وينوب عني بمداده ، إلا إنه في كل مرَّةٍ يلين في يدي ؛ يَتَرَنَّحُ كالسكران يُمنَة ويُسرة ، كأنه نَسِيَ طريقه على السطر المستقيم.

لكني أقول وألتَمِسُ له الأعذار ، فلَعَلَّ نوائب الدَّهر أسْكَرَتْه ، ولِتَحَمُّله وشِدَّة صلابته كَسَّرَتْه ، فكأنه يقول لي : أنتَ لا تحتاج لقلمٍ يَكْتُبْ ؛ إنما تحتاج لِآلَةٍ تصرخ نيابة عنك!أَخَذَتْ مقالته بمجامع نفسي ، فألفيتني مشدوهاً مصعوقاً ؛ قائلاً له بتلعثُمٍ ، أفصح . فقال لي : أَتُحْسِنُ العَدَّ؟! ـ فترفَّق بي مُتَنَهِّداً ـ لا عليك ؛ خُذ أمثِلَةً سريعةً واللبيب بالإشارة يفهمُ !
هذا العالَمُ الأَزرق ولا أقصد الفضاء ـ الكون ـ ، وإن تشابها في الآيات والعِبَر! أما الكون فآياته تَجْذِبُ روحك جذباً ، وتلملم شعثها إلى أن تراها جاثية في حضرة إلهية مهيبة مع من يشبهها من الأرواح اللطيفة الشفَّافة التي لا يُرَى منها إلا الأنوار ، فمرَّةً تراها جاثية مُحَلِّقَةً في حِلَقِ الذِّكر العُلوِيَّة تذكر بصفاء ، حتى أنْفَاسها تخرج رطبة طيبة مُعَطَّرة ، هذا النَّفَسُ الذي أخذتَه في جوف الليل مرَّةً بعد ما ضاق صدرك ؛ فشعرتَ ببردٍ يُطفِئ لهيب أحشائك المحترقة ، هذا أثرٌ من آثار أنفاس تلك الأرواح

أمَّا العالَمُ الأزرق ـ الفيس بوك ـ الذي قصدتُ ، يُشْبِهُ حياتنا اليومية لكنَّه أوسع مجالاً وأكبر انتشاراً وأثراً ، لما تأملتُ ـ يقول ـ هذا العالم جَفَّ مدادي وأنت ما زلتَ تُرغِمُني على الكتابة لكنِّي لا أقدر ، وفي الحقيقة أتعجبُّ من زَجِّكَ بي وسط أقوام كلهم علماء! كُبَرَاء! أولياء! أَشِدَّاء! أقوياء!
ابتسامتك هذه أعرفها ولا أُنكرها ولكنها تُهَيِّج ما تَبَقَّى من مدادي ـ قلت في نفسي : وهذا الذي أردت ـ ولكني كلما حاولتُ وقفتُ ، وكلما خطوت تعثَّرت . قومٌ يأخذ صغيرُهم من كبيرِهم ، ويُرَدِّدُ كسولهم كلام أَجْرَأِهم ، فلا تعرف التلميذ من الأستاذ ، يتكلمون بثقة ليس لها حدود ، من قَدِرَ على النِّقَاش فعل ، ومن لم يقدر نسخ ونقل!

عالِمُهُم لا يرى أحداً في مجاله وفَنِّه إلا هُوْ ، فإن تكلم فهو المُجَدِّدُ للمِلَّة! ووحده ناصر السُّنَّة! ولسانه الأوحد الذي نَصَحَ الأُمَّة! يرفع شأن من شاء إنْ تَبِعَهُ وأَقَرَّه! ويَخْسِفُ الأرض بمن شاء إن خالفه ولو مَرَّة!

إنْ كان مُتَمَذهِباً فهو المُحَقِّق! وإن أنكَرَهُ ـ وَيْحَه ـ فهو المجتهد المُطلَق!

وبين أتباع هؤلاء وهؤلاء من الغارات والغزوات ما لا يعلم حَصْرَه إلا الله ، فإذا غاروا على أحدٍ ـ لا حول له ولا قوة ـ سَبَوْا أفكارَه ، وجَرَّدُوه من أخلاقه بل ومن دينه ، حتى يصير أعمى أصم وإن كان يرى ويسمع!

مُكَبَّلٌ بسلاسل تَبَعِيَّتِهم ، فلا يَسِيرُ إلا إذا سَيَّرُوه ، ولا يَقِف إلا إذا أَوْقَفُوه ، أو يَفْنَى إن أرادوا فَنَائَه وإن كان بين الأحياء ، هذا دَأْبُهم في كل عِلمٍ وفَنٍّ المُحْسِنُ فيهم كالمُسِيء ، لا يُفَرِّقُ بينهم إلا من نَوَّرَ الله بصيرته.

وقد أَحْجَمْتُ وامتنعتُ لكنك ما تركتني ، وآثرتَ أن تُلقِي بي في مهالكهم ؛ وأعوذ بالله أن أخوض مع الخائضين ، وما قلتُ لك وأنا صاحبك وصَفِيُّك إلا نَذْرَاً يسيراً مما في نفسي وما خفي كان أعظم ، وإن لِنْتُ في يدك قبل وتَمَنَّعْتُ فلربما أشْتَدّ ، ونبين للناس كيف كانت أخلاق وصفات أهل العلم ، وَنُحِدُّ لكلِّ سَائِبَةٍ حَدّ ، واعلم إنه ما زال في النَّاس بقايا وفي الزَّوايا خفايا.
فقلتُ له ـ لِقَلَمِي ـ بعد ما انتهى من بَثِّ شِكَايَته ، وبيانه عن سبب خَفَائه وعَظِم مِحْنَتِه : لله أنت!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *